ربما كان السؤال الأكثر تكراراً الذي تلا إصدار "إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي" هو ما السبب الذي جعله يحظى بتلك الأهمية السياسية والإعلامية ويحوز بسرعة قياسية على ما يشبه إجماع القوى المعارضة داخل سورية وخارجها. هل ثمة سرّ أم سحر؟ أم هل هناك اتفاقات سرية وترتيبات مسبقة بين كل ألوان الطيف المعارض لإخراج الأمر على هذه الصورة ، أم لعل السبب يعود الى شدة جوع هذه القوى للتعاون والعمل المشترك بعد فشل عدة محاولات للحوار وأكثر من دعوة لعقد مؤتمر وطني يخلصها من حال التشتت والتشرذم؟..

البعض وجد مكمن السحر في التوقيت، حيث صدر "إعلان دمشق" بعد أيام من خبر انتحار وزير الداخلية السوري غازي كنعان وقبل أيام من موعد تسليم ديتليف ميليس تقريره حول اغتيال الرئيس الحريري ورفاقه. وإذا كانت الحقيقة تقول إن المبادرين الى توقيع الإعلان لم يضعوا في اعتبارهم أهمية هذه اللحظة ولم تكن ثمة قصدية من الانتظار خمسة شهور سوى متابعة النقاشات وتطوير المسودة الأولى، فعلينا أن نعترف بان ضغط التطورات والظروف المستجدة قد سرّع بلا شك مسار الحوار والتوافقات وحفزّ الحاجة لحضور الصوت المعارض كقوة ثالثة تحسباً من أية انعطافات مهمة يرجح أن تحدث، حتى لو بدا هذا الحضور أشبه بحضور معنوي لا يملك القوى الفاعلة على الأرض. لكن التعويض يكمن في ما يظهره إعلان دمشق من استعداد سياسي صريح لتحمل المسؤولية ومواجهة تفرد السلطة في تقرير مصير البلاد، ليغدو أشبه بإجابة منتظرة على سؤال ملح يشغل بال المجتمع السوري على اختلاف مكوناته حول مستقبله ومستقبل العملية السياسية مع احتمال تشديد الحصار السياسي والاقتصادي واستمرار ممانعة النظام وإصراره على التمسك بعقليته القديمة وأنماط سلوكه العتيقة!!.

وجد آخرون سحر إعلان دمشق في جديد خطاب المعارضة السورية وقد تقدمت للمرة الأولى لانتزاع زمام المبادرة وفق مهمة مزدوجة: أولاً، الدعوة للتغيير الديمقراطي الجذري كحاجة حيوية للمجتمع بغض النظر عن الظرف الخاص الذي يمر به النظام، ورفض كل أشكال الإصلاحات الترقيعية أو الجزئية أو الالتفافية الشكلية. تجلى هذا الأمر في مطلب إجراء انتخابات عامة لاختيار جمعية تأسيسية تعد دستوراً جديداً للبلاد يضمن تداول السلطة وسيادة القانون، ويشكل رداً واضحاً وملموساً على بعض المواد الواردة في الدستور السوري وخاصة المادة الثامنة التي تقول بدور حزب البعث كقائد للدولة والمجتمع، وكذلك المواد التي تمنح السلطة التنفيذية على اختلاف مواقعها صلاحيات حاسمة على حساب السلطتين التشريعية والقضائية. كما تجلى هذا الأمر أيضاً في إبراز أولوية الديمقراطية كخيار نهائي وكمخرج وحيد من الأزمة الراهنة، بخلاف ما كان يدعو إليه البعض من أولوية المسألة الوطنية ومواجهة التحديات الخارجية، الذريعة التي أعاقت الاستحقاق الديمقراطي لعقود طويلة. وفي هذا الإطار تجدر الإشارة الى أن الإعلان، إذ رفض أي تغيير محمولاً من الخارج، تقصد بالمقابل إظهار إدراكه للترابط الكبير بين العامل الداخلي والعامل الخارجي والتأثير المتبادل بينهما وأهمية الإفادة موضوعياً من الظروف والمواقف العالمية المساعدة. ثانياً، فك الارتباط بين مشروع التغيير الديمقراطي وقواه وبين سياسات النظام ووعوده الإصلاحية وإظهار العزم على تقديم التضحيات من أجل إنهاء مرحلة الاستبداد وبناء سورية وطناً حراً لكل أبنائه، بما يعني التوجه الى حاضنة جديدة لإنجاز التغيير المنشود، هي الشعب وقواه السياسية والاقتصادية الحية، بعيداً عن الخطاب القديم الذي عول أساساً على استجداء السلطة ومناشدتها.

لقد دأبت القوى المعارضة طوال تاريخها على مخاطبة النظام السوري بالعرائض والرسائل كي يقوم بخطوات الإصلاح السياسي ويوسع هوامش الحركة والحرية، لكن سنوات من الوعود الزائفة ومن الممانعة والمماطلة، ثم ما شهده المجتمع مؤخراً من عودة الى الوراء الى الوسائل والطرائق الأمنية والتضييق المستمر على النشاطات المدنية والسياسية، حسم موقف المترددين وشجع الكثيرين على نفض اليد من النظام وإسقاط الرهان على مبادرته أو دوره في عملية التغيير. لكن يبقى هذا الموقف الجديد، وللأسف، عرضة للتراجع والانتكاس طالما لم تتحرر غالبية القوى المعارضة من رهاناتها وأوهامها وطالما تحقق الإجراءات الإصلاحية الفوقية بعض النجاح في تغذية هذه الرهانات. وخير مثال على ذلك التباينات في قراءة القرار الأخير للجنة المركزية لحزب البعث بإزالة نتائج إحصاء عام / 1962 / وحل مشكلة الأكراد المحرومين من الجنسية، أو الوعد بإصدار قانون أحزاب يسمح بالنشاط السياسي المعارض، والعفو عن بعض المعتقلين السياسيين..

ثمة من لحظ سحر إعلان دمشق في عموميته وفي ما حفل من مفارقات وتعارضات مثلت النتيجة الطبيعية لسياسة التوافقات التي اعتمدها الموقعون والتي تعني التوفيق بين قوى متباينة من حيث مصالحها ومواقفها ومنابتها الفكرية والسياسية، ليبدو الإعلان أشبه بمرآة أو قاسم مشترك يمكن أن يجد فيه كل طرف بعضاً مما يسعى اليه، طالما الجميع يعترف بالجميع بعيداً عن الروح الاقصائية والوصائية وطالما ترك الباب مفتوحاً على مصراعيه أمام التعديل وإعادة صياغة تتلاءم مع ما يستجد من تطورات وتوافقات وفي ضوء امتحان مسارات إعلان دمشق على أرض الواقع.

لقد اكتفى إعلان دمشق بعرض أنصاف حقائق في قراءته للعديد من المسائل ذات الطابع الإشكالي، أو لنقل انه هرب عامداً من تحديد مواقف واضحة وقاطعة من قضايا خلافية اقتصادية أو سياسية، كمسألة الاقتصاد الحر أو المسألة القومية أو الدين، ربما كي ينجح بالمقابل في توحيد هذه الكوكبة المتنوعة المشارب من القوى والنشطاء السياسيين على مفهوم دولة المواطنة الحاضنة لبشر متساوين في الحقوق والواجبات، بغض النظر عن انتماءاتهم. أما حول حقوق الأقليات القومية واحترام خصوصيتها، فقد تم تجسيد ذلك بالدعوة لحل ديمقراطي عادل للقضية الكردية في سورية، في محاولة الإفادة من التجربة العراقية وتداعياتها وأيضاً إزالة الشروخ والتصدعات التي خلفتها أحداث القامشلي ربيع عام / 2004 /.

أخيراً، وعلى رغم تنوع الملاحظات والانتقادات التي طاولت "إعلان دمشق" وصحة بعضها لجهة ضرورة تدقيق عدد من النقاط وتوضيح بعض الأفكار التي تضمنها، فإن أهم ما صنعه ليس حجم الدعم والتأييد (وقد انضم إليه أحد عشر حزباً وتجمعاً سياسياً معارضاً وأكثر من مئة شخصية وطنية أو عاملة في الشأن العام)، وإنما أيضاً الصورة التي أظهرها للعالم أجمع بأن سورية ليست أمام خيارين لا ثالث لهما في حال انهيار النظام الراهن: أما التفكّك والفوضى والحروب الأهلية، وإما السيطرة التامة للإسلام السياسي المتشدد. كما كان للإعلان دوره في طمأنة الشارع السوري بأن القوى والفعاليات المعارضة على اختلاف فئاتها ومذاهبها وطوائفها وقومياتها ومشاربها الإيديولوجية قادرة على التوافق وعلى احترام تنوعها وعلى الاحتكام لقواعد العملية الديمقراطية السلمية وأنه يمكن الوثوق بها لتجنيب البلاد الاحتمالات الأسوأ.

لقد غدا إعلان دمشق علامة بارزة في الحراك السياسي السوري المعارض لا يمكن لأي كان أن يتجاهلها أو يقفز من فوقها. أو لنقل انه بات أشبه بمظلة عامة يمكن أن تنضوي تحتها مختلف أطراف المعارضة لتوحيد هدفها وإيقاع ممارستها، والأهم أنه حفز روح الإبداع والمبادرة لإنقاذ البلاد مما ينتظرها وللسير خطوات واضحة في طريق التغيير الديمقراطي المنشود. هذا ويمكن اعتبار ما طرحه رياض الترك مؤخراً واحدة من هذه المبادرات الى جانب المشاريع والمقترحات التي طرحتها بعض الشخصيات والجماعات السياسية الأخرى بغية تطوير "إعلان دمشق" صيغة وقوى وخططاً ملموسة، والأمل أن تستكمل النتائج الايجابية التي حصدها هذا الإعلان بخطوات جدية تقرن الأقوال بالأفعال.

مصادر
المستقبل (لبنان)