لم يكن اللبنانيون، بكثرتهم الساحقة، في أي يوم، مع <<تدويل>> ما يسمى تجاوزاً <<المسألة اللبنانية>>، وبالتحديد علاقات وطنهم الصغير مع أشقائه العرب، وبالذات منهم سوريا (وفلسطين بطبيعة الحال).

ولقد قاوم اللبنانيون، بوطنيتهم أي بعروبتهم، محاولات <<التدويل>> التي جرّب بعض <<الرؤساء>> الذين أوصلتهم المصادفات التاريخية إلى سدة المسؤولية وحاولوا أن يستعينوا <<بالدول>> على شعبهم وقضاياه الحيوية التي تتصل بهويته وانتمائه ودوره في خدمة قضايا أمته...

وبالتأكيد فإن وطنية اللبنانيين، أي إيمانهم بعروبتهم، هي التي أسقطت <<الرؤساء>> أيام كانوا مطلقي الصلاحيات ومعهم الحكومات التي حاولت توظيف لبنان بموقعه الخطير ضد أهله العرب، وتحديداً ضد سوريا التي طالما نظر نظامها، على اختلاف صوره، إلى لبنان على أنه يمكن أن يتحول إلى <<وكر للتآمر>> أو <<معبر>> لدعم القوى المعارضة للنظام وتعزيزها بالإفادة من الأهمية القصوى للبنان في تأثيره على سوريا.

وحتى من قبل الحرب الأهلية فإن وطنية اللبنانيين وعروبتهم هي، أولاً وأساساً، القوة التي كانت كفيلة بإسقاط الحكم المتآمر على سوريا أو منع القوى ذات الاتجاه <<الانعزالي>>، والخارج على المصالح القومية، وبالذات مصالح سوريا الاستراتيجية من الوصول إلى مركز القرار... وكان للقوى العربية، وبالذات سوريا، موقع الداعم والمساند.

يمكن الرجوع إلى الخمسينيات ومحاولات الحكم آنذاك جر لبنان إلى الأحلاف، ثم إلى نتائج الاجتياح الإسرائيلي ومحاولة الحكم تمرير اتفاق (17 أيار 1983)، لنتبيّن بوضوح قاطع أن الوطنية في لبنان، وهي هي عروبته، قد حملت السلاح وقاتلت لإسقاط اتفاق الإذعان هذا، مع التقدير العالي للدعم الذي تلقته من سوريا أساساً وبعض القوى العربية الأخرى، في حين كان العديد من الأنظمة العربية <<يبارك>> للحكم في لبنان <<إنجازه التاريخي>>، ويستقبل موفديه، ويرد على اتصالات <<رئيسه>> مشجعاً، بل ويستقبله في حالات مشهودة.
وتعرف سوريا، بالتجربة الحسية المعاشة، أن الوطنية في لبنان كانت وباستمرار تحمي ظهرها، حتى من قبل أن يدخل الجيش السوري تحت علم جامعة الدول العربية، كقوة ردع، ثم بعد أن اضطرت هذه القوات إلى الخروج من بيروت والجبل وبعض البقاع نتيجة الاجتياح الإسرائيلي في صيف العام 1982.

وتعرف سوريا، بالتالي، أن العروبة ليست وافدة على لبنان، وليست طارئة عليه، ولم تصله محمولة على ظهر الدبابات، ولا هي <<خرجت>> منه أو <<أخرجت>> نتيجة لاضطرار القوات السورية إلى الجلاء عن لبنان، بعد كل ما كان فيه بدءاً بخطيئة التمديد التي واكبها القرار الدولي 1559 القاضي بانسحاب القوات السورية من لبنان، وصولاً إلى الأجواء الملتهبة التي فجرتها جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري والتي تركز الاتهام بالمسؤولية عن وقوعها على <<النظام الأمني اللبناني السوري المشترك>>، بكل ما استتبعته تلك الجريمة من قرارات دولية (1595 ثم 1636، وبينهما القرار 1614).
ذلك أن بين <<مزايا>> لبنان أن وطنيته طبيعية، تنبع من داخل إنسانه، من بيئته، من إيمانه بأرضه، من اعتزازه بتاريخه وبانتمائه إلى أمته العربية، بالفكر واليقين كما بالمصلحة.
والوطنية هي هي عروبته، لا تأتيه من خارجه ولا تسبغ عليه كنعمة من <<الرئاسة>> أو <<القيادة>> ولا تسقط عليه بالمظلات.
ولأنها تنبع من ذاته فهي تدله على الصح والغلط في مواقف حكامه (والحكام العرب الآخرين)... وهي التي تأخذه إلى التلاقي مع رموز العمل الوطني والقومي في دنيا العرب بعواصمها المختلفة من دمشق إلى القاهرة ومن بغداد إلى الجزائر ومن ليبيا إلى السودان، ودائماً إلى فلسطين ونضال شعبها من أجل حقه في أرضه.

لم ينزل الوطنيون في لبنان إلى الشارع، مرة، تأييداً لنظام سواء داخل لبنان أم خارجه، في حين أنهم نزلوا كثيراً تأييداً لهذه القضية العربية أو تلك، أو لقائد عربي يتولى الدفاع بإخلاص عن حق بلاده بالتحرر من الهيمنة الأجنبية أو منع عودة الاستعمار بقناع جديد.
نزلوا سنة 1956 تأييداً لمصر جمال عبد الناصر وهي تسترد حقها في قناة السويس، ثم دعماً له في مواجهة العدوان الثلاثي على مصر..
ونزلوا تأييداً للحركة الوطنية في سوريا حين طالبت بالوحدة مع مصر جمال عبد الناصر، إذ رأوا فيها إنجازاً قومياً عظيماً..
ونزلوا لدعوة عبد الناصر إلى الصمود في موقع القيادة لكي يتحمّل مسؤوليته في إزالة آثار هزيمة 5 حزيران 1967.

وساندوا ثورة الجزائر، بزخم الإيمان بحقها في التحرر حتى انتصرت.
وحفظوا لمعمر القذافي مواقفه وساندوه، فلما تخلى عن دوره القومي مستكبراً على العروبة وموجهاً إليها الاتهام بالعنصرية انفضوا من حوله ووجهوا إليه انتقادات مريرة.

ولقد حفظت الوطنية في لبنان، وهي هي العروبة، لسوريا دورها التاريخي في رعاية لبنان إبان محنة الحرب الأهلية، وغفرت لقياداتها أحياناً أخطاءها في التقدير وتحميلها الوطنيين في لبنان مغبة تكتيكاتها وخياراتها التي كانت تمليها عليها مصالحها أو ما تفترضه كذلك.

كانت الوطنية في لبنان ترى في قوة سوريا وفي صمودها على مواقفها القومية، قوة لها... وكثيراً ما اصطدمت بحكومات كانت تقصر أحياناً أو تتقاعس عن نجدة سوريا، وتجنح بالخوف أو بالمصلحة الآنية المباشرة للحكام إلى محاباة الأجنبي أو الانحياز إلى معسكر عربي معاد للنظام في سوريا.

بل لعل الوطنية في لبنان راعت دائماً مصالح سوريا ولعلها وافقت في حالات مشهودة أشهرها حرب تشرين التحريرية على تقديم مصالح سوريا على مصالح لبنانية مباشرة، معتبرة أن دعم صمود سوريا واستقرارها مصلحة وطنية لبنانية عليا.

وما زالت الوطنية في لبنان، وهي هي العروبة، بمثابة احتياط استراتيجي لسوريا أساساً وللقضايا العربية عموماً، وكثيراً ما خاض الوطنيون في لبنان، تحت راية العروبة، معارك الدفاع عن سوريا، ناظرين إليها بوصفها قلعة الصمود العربي..
وإذا كان قد حصل تبدل في هذه الثوابت فلا بد من مراجعة جدية وشاملة للسياسات والنتائج، ولا بد من أخذ الواقع الدولي، ومعه الواقع العربي بالاعتبار، وإلا خسرت سوريا كثيراً حتى لو خسر لبنان أكثر.

فلسنا في العام 1956، ولا في العام 1982، ولا بالتأكيد في العام 1990 الذي أدى إلى تفويض سوريا بالشأن اللبناني والذي ما كان ليصمد لولا أن رأى فيه الوطنيون دعماً لتوجههم الثابت... وإذا كان ذلك كله قد انتهى هذه النهاية البائسة فإن المسؤولية عن ذلك مشتركة، ولكل نصيبه بقدر وزنه وحقه في القرار.
ومن حق الوطنية في لبنان، وهي هي العروبة، على سوريا أن تعززها، لا أن <<تنتقم>> ممن لم يكونوا يوماً بين خصومها، بذريعة أنهم يطلبون الآن الوصاية الدولية أو يسعون إلى التآمر مع قوى الهيمنة الأجنبية لقلب النظام فيها أو يتخلون عنها للحصار الأميركي والعقوبات.

إن خسارة لبنان قد تكون شديدة الوقع على سوريا، لكن خسارة سوريا ستكون كارثة على لبنان.. وفي الحالين فإن مشاريع الهيمنة هي التي ستكون المستفيد الأول والأخير.

مصادر
السفير (لبنان)