في غمرة المواجهة بين نظام بشار وأميركا بوش وأوروبا بلير وشيراك وسنيورة لبنان، قد يخطر على البال سؤال: هل هناك معارضة سورية؟ وأين؟ وكيف؟ وما موقفها من أميركا وأوروبا؟

المعارضة السورية موجودة. هي، كالمعيدي، تسمع بها خير من أن تراها. هي اسماك صغيرة تتنفس تحت ماء السلطة الراكد. تسبح إلى جانب مخلوق اسطوري سلطوي هائل. تصدر عن أسماك الزينة المعارضة فقاعات هوائية تنفجر على السطح بصخب إعلامي أكبر من حجمها. ثم يَنْداح الصخب دوائر. ثم... ثم يعود السطح أملسَ ناعما راكدا، إلى أن يستقبل فقاعات أخرى من تحت.

هل لهذه المعارضة تأثير فاعل، ونفوذ شعبي؟

انها مجرد جماعات ضغط صغيرة، بالكاد أن يكون لها تأثير، لانها مشرذمة: أسماء وشعارات متشابهة. انقسامات وانشقاقات لا تنتهي. زعامات بلا «كاريزمية» جذابة. مجرد ضباط بلا عسكر. فلا قواعد شعبية لها. معارضة كالنظام تجيد التنظيم والانشاء، شديدة الصخب والضوضاء، ولا سيما في هذا الزمان، زمان «خناقة» النظام مع أميركا، بدلا من ان تتوجه الى تعميق جذورها الشعبية.

العذر الوحيد للمعارضة السورية في البعد عن الشعب والمجتمع هو النظام الذي حال دون قيام معارضة سياسية. فهو لا يعترف بها، وتعامل معها بأساليب تتراوح بين غض النظر، والضربة الخفيفة على اليد او الخد، الى الملاحقة والاعتقال والتصفية الجسدية فرديا وجماعيا.

المعارضة السورية في الداخل اكثر جدية ومصداقية من معارضة الخارج. لا يجمع بين معارضات الداخل والخارج سوى المطالبة بالتغيير، على اساس سلمي متدرج او فوري، واقامة نظام ديمقراطي. لكن معارضة الداخل الجدِّية هي معارضة «مستأنسة»، معارضة عينها بصيرة ويدها قصيرة. معارضة من بيتها وفي بيانات فهي محرومة من الصحافة التي تتمتع بها، مثلا، المعارضة المصرية، وهي معارضة خائفة قصيرة اللسان، لا تستطيع تناول الطائفة المهيمنة على الجيش والحزب، ولا العائلة الحاكمة، ولا اجهزتها المخابراتية. معارضة تعرف حدودها. فهي على قدِّ لحافها تمد ساقيها. معارضة لم تصل بعد الى الإضراب والتظاهر والاعتصام. معارضة تؤمن بالأدب الرمزي الرومانسي، ادب الإيحاء والإيماء.

آيديولوجيا المعارضة قوس قزح متعدد الألوان: ماركسية. قومية. اشتراكية. ليبرالية. دينية. اصولية. شخصيات مستقلة. شخصيات انتهازية. شخصيات عميلة للخارج... لا أعتقد ان تحالفاتها ومواثيقها وبرامجها قادرة على الصمود. لو كان النظام ذكيا ومنفتحا لسمح لها بحرية العمل. لو فعل لذابت احزاب وتنظيمات، واختفت اسماء، وانحلت تجمعات وتحالفات.

كما المعارضة العراقية، إذا حدث تغيير جذري في سورية، ستظهر فجأة تنظيمات لا علاقة لها بـ «المعارضات» الراهنة. بالطبع، سيختفي المثقفون المعارضون مع عرائضهم الانشائية الطويلة عن الحرية والديمقراطية. اذا حدثت فوضى او اضطرابات، ستظهر ميليشيات تتحاور بالسلاح. اذا استقر الوضع بعد تغيير ما ستكون التنظيمات الاصولية والناصرية، وربما البعثية، هي المستفيدة والقادرة على فرض وجودها.

ماذا عن أحزاب وتنظيمات المعارضة الراهنة؟

الدخول في متاهة المعارضة السورية تحدٍّ كبير للكاتب السياسي. مع ذلك، سأجرب لأعطي القارئ السوري مجرد لوحة سريعة، معتذرا عن سرياليتها المذهلة، وذلك في حديثين اثنين، حديث اليوم، وحديث الثلاثاء المقبل.

تبسيطا وتسهيلا، أقول إن معارضة الداخل تتمحور حول «التجمع الوطني الديمقراطي» الذي يضم خمسة أحزاب يسارية معتدلة، قومية وماركسية واشتراكية، تأسس التجمع في عام 1980، وردت عليه السلطة بالملاحقة والاعتقال، على الرغم من أنها كانت تخوض معركة فاصلة مع النقابات المهنية الليبرالية والاخوان المسلمين.

يربط التجمع بإحكام شديد بين القومية العربية والديمقراطية. لكن فصائله تمكنت من تطوير اشتراكيتها الماركسية أو التروتسكية، لتتكيَّف مع «الطريق الثالث» الذي نشأ مع أحزاب شرويدر في المانيا، وتوني بلير في بريطانيا، وبيل كلينتون في أميركا، كرد على دوغمائية الاشتراكية الستالينية من جهة، وعلى رأسمالية ثاتشر وريغان المتوحشة من جهة، وانسجاما مع ليبرالية العولمة، في الحرص على تشجيع القطاع الخاص، مع المحافظة على حد أدنى من مكاسب العمال.

وهكذا، فالتجمع يرى نفسه حركة يسارية معارضة، تؤمن بالحوار السلمي مع النظام. وهو ضد احتكار السلطة والوصاية والغاء السياسة. التجمع يطالب النظام بالغاء حالة الطوارئ والأحكام العرفية والاستثنائية، وبإصلاح دستوري وسياسي متدرج.

خطا التجمع خطوة كبيرة في حواره مع فصائل المعارضة الأخرى. وأسفر الحوار عن «إعلان دمشق» في اكتوبر الماضي الذي جاء في ظروف صعبة تعيشها سورية ونظامها. الإعلان لا يختلف كثيرا عن برنامج التجمع، من حيث الإصرار على نظام ديمقراطي ينبثق من الداخل، وليس من الخارج، كما تحاول مثلا المعارضة السورية «المتأمركة» التي ظهرت على السطح فجأة بعد عملية 11 سبتمبر.

غير ان «التجمع» قدم تنازلات مثيرة للجدل، لا سيما في ما يتعلق بإشكاليتي العروبة والاسلام. كانت عروبة «الاعلان» باهتة. تكاد تشبه عروبة الدستور الطائفي العراقي! اختفى الالتزام بالقومية والوحدة، وحل محله مجرد تأكيد على انتماء سورية الى «المنظومة العربية»! وواضح ان هذا التنازل القومي كان لمساومة الفصائل المعارضة التي شاركت في صنع «الاعلان»، لا سيما الفصائل الكردية، وربما الأصولية ايضا.

في الدين، يتخلى التجمع عن «علمانيته»، ليقول في «الإعلان» إن الاسلام هو «المكوِّن الثقافي الابرز لحضارتنا العربية» غير ان «الإعلان» يستدرك قائلا ان اسلاميته يجب ان تكون بعيدة عن «التعصب والعنف والاقصاء».

ماذا كانت ردود الفعل على «إعلان دمشق»؟

تجاهل نظام بشار الإعلان. رفض الحوار، واعتبر التوقيت «استلهامًا للخارج»، بل حالت شرطة النظام واجهزته. دون عقد مؤتمر صحافي يقدم فيه اصحاب الإعلان الائتلاف المعارض الجديد، الغريب ان خطاب بشار الاخير الذي أكد فيه على «الوحدة الوطنية» يتجاهل مبادرة «التجمع» و«الاعلان» الى الدعوة للحوار والمصالحة، فيما النظام في أمسِّ الحاجة الى الالتقاء مع المعارضة، في مواجهة الضغوط الاميركية.

مرّ خطاب بشار بسرعة كبيرة على الاصلاح السياسي مُنَوِّهاً بأن من يرفع صوته الآن هو «مرتبط بالخارج» مكتفيا بذلك، من دون اتهام المعارضة بـ «الخيانة» كما هي العادة. لا شك ان الخطاب الصدامي المتوتر يوحي، على الرغم من الافراجات الاخيرة عن بعض المعتقلين، أن معارضة الداخل مقبلة على معاناة جديدة نتيجة للتشنج الرسمي.

أما إخوان الخارج فقد سارعوا من قاعدتهم في لندن الى تأييد اعلان دمشق، والانضمام اليه مستبشرين بما ورد فيه عن الدين. وحتى رفعت الاسد الطامع بالعودة والوراثة أعلن تأييده لـ «ديمقراطية» الاعلان، وكذلك فعلت المعارضة المعلَّبة اميركياً.

الاغرب ان بعض الفصائل «الكوردية» المتشنجة لم ترضها كل التنازلات التي قدمها «اعلان دمشق» للأكراد، فرفضته لأنه لم يصل الى الاعتراف بالقومية الكردية، ولأنه لم يسقط عروبة سوريا نهائيا، ولم يطالب بنظام «اتحادي علماني»!

الى الثلاثاء المقبل، في حديث أخير عن أنواع وفصائل اسماك الزينة السورية المعارضة... تحت الماء.

مصادر
الشرق الأوسط (المملكة المتحدة)