حسناً فعل رئيس الحكومة اللبنانية فؤاد السنيورة، حين دفع في مجلس الوزراء لاتخاذ قرار بتشكيل لجنة بــرئاسة السفير خليل مكاوي لمحاورة الفلسطينيين، وحل القضايا الخاصة بملف وجودهم في لبنان. ففي توحيد الموقف الرسمي اللبناني من قضية الوجود الفلسطيني يكون السنيورة قد نأى بنفسه، وبحكومته، عن السجال الدائر على المستوى الإعلامي(...).

وما قام به الرئيس السنيورة، شكل خطوة خالفت السياسة التي كانت متبعة في الحكومات اللبنانية السابقة. ففي الماضي كانت السياسة اللبنانية تبدو وكأنها تقوم على أساس إبقاء ملف الوجود الفلسطيني مفتوحاً على مصراعيه، وتقديمه مصدراً للتوترات السياسية والأمنية، وعاملاً رئيسياً من عوامل تهديد الاستقرار في لبنان(...).

من هنا جاء قرار السنيورة بإحالة ملف الوجود الفلسطيني إلى طاولة الحوار إشارة إلى رغبة من قبل الحكومة، في "المرحلة الجديدة"، بمعالجة تعقيدات هذا الملف، وإغلاق ما يمكن إغلاقه منه(...).

على الصعيد الفلسطيني تبدو الأمور مختلفة إلى حد ما، فقد طالب الفلسطينيون طويلاً الدولة اللبنانية بوضع ملف وجودهم على طاولة الحوار(...).

وأشاروا في العديد من المرات إلى أن الدولة اللبنانية تتخذ من قضيتهم ورقة إقليمية، تعمل على استغلالها إلى أبعد الحدود(...). وكثيراً ما عبـّـر الفلسطينيون عن استيائهم من إصرار البعض على تقديم المخيمات على أنها جزر أمنية، وتجاهلهم أنها جزر بؤس اجتماعي(...).

ولقد جاءت إثارة الدولة اللبنانية عدداً من المواقع العسكرية الفلسطينية خارج المخيمات - كما هو معروف - لتضع الملف الفلسطيني على نار حامية؛ وليتبين أن الفلسطينيين ليسوا جاهزين حتى الآن للدخول في حوار مع الدولة اللبنانية.

فقد التقوا مع الرئيس السنيورة، باعتبارهم طرفين منفصلين، طرح كل منهم وجهة نظره في اجتماع مستقل مع رئيس الحكومة. وتحت وطأة تداعيات التحقيق في جريمة اغتيال الرئيس الحريري، لقي الانقسام الفلسطيني ترحيباً لدى أطراف لبنانية بعينها، صنفت الفلسطينيين فئتين. الأولى منضوية تحت راية "الشرعية الفلسطينية"، ويقصد بها فصائل منظمة التحرير الفلسطينية. والثانية قوى التحالف الفلسطيني والتي حرص البعض على تقديمها باعتبارها "المتحالفة مع سوريا"، في محاولة للادعاء بأن أطراف هذا التحالف "هم في حقيقتهم امتداد للوجود السوري لكن بعناوين فلسطينية”.

وقد ذهب أصحاب هذا الرأي بعيداً في نشر الأوهام السياسية في فضاء الحالة اللبنانية مستندين إلى غياب وحدة الموقف الفلسطيني، فاتهموا "بعض الفلسطينيين" (كإشارة إلى فصائل قوى التحالف)، بأنهم يحاولون تفجير الأوضاع في لبنان مرة أخرى. ولعلّ "المصادفة التاريخية" لعبت في هذا المجال دوراً خبيثاً خدم أصحاب هذه الفبــركات الإعلامية. فرواية الحرب الأهلية في لبنان تقول إن شرارة اندلاعها انطلقت من حادثة بوسطة عين الرمانة التي كانت تقل مجموعات من الفلسطينيين المدنيين المناصرين للجبهة الشعبية -ـ القيادة العامة بزعامة أحمد جبــريل. وإثارة مسألة السلاح خارج المخيمات انطلقت هي الأخرى من تسليط الضوء على مواقع لـ"القيادة العامة" في الناعمة وفي بعض مناطق البقاع الشرقي. كما تحدثت وسائل الإعلام وعلى الملأ، وفي اللقاء مع الرئيس السنيورة.

وما زاد الطين بلّة حشر اسم "القيادة العامة" بين قوسين نافرين، في تقرير رئيس لجنة التحقيق الدولية ميليس. ومع أن جبــريل نفى أية علاقة للجبهة بهذه القضية ورغم أن ميليس هو الآخر أكد أن جبــريل خارج دائرة الاشتباه، إلا أن ورود اسم "القيادة العامة" في تقرير ميليس ساعد في صب الزيت على النار في الموضوع اللبناني، وفي التحريض ضد "بعض الفلسطينيين".

في كل الأحوال لا تقاس السياسة بالنيات، بل بالأداء والنتائج. وتؤكد الوقائع بنتائجها، أن الفلسطينيين، أصحاب المصلحة الأكبــر في إدارة حوار مع الدولة اللبنانية ليسوا، حتى الآن، جاهزين لمثل هذا الحوار.

ففصائل منظمة التحرير الفلسطينية التقت في اجتماع تمهيدي في مخيم الرشيدية، وضعت فيه الاتجاهات العامة لسياستها في الحوار المرتقب مع الحكومة اللبنانية، وشكلت اللجان المتخصصة لتحضير ملفات الحوار، في محاوره المختلفة.

كما شكلت لجنة لإدارة الحوار - أولاً - مع أطراف قوى التحالف، لتوحيد الموقف، والوفد الفلسطيني للحوار. إذ من الصعب، بل من الخطأ، أن تدير الحكومة اللبنانية حوارها مع طرفين فلسطينيين يقدم كل منهما نفسه ممثلاً لأجزاء من الحالة الفلسطينية.

والمؤشرات تدل على أن ثمة عقبات ما زالت تحول دون أن يتفق الفلسطينيون في ما بينهم بالسرعة المطلوبة. فثمة قضايا تعوّق هذا التفاهم منها على سبيل المثال السلاح خارج المخيمات. إذ ترى أطراف التحالف أن رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس "باع" السلاح خارج المخيمات للسنيورة دون استشارة أصحاب العلاقة من الفلسطينيين. ولا تخفي قوى التحالف امتعاضها من تصريحات عباس ومواقفه وترى أنها غير ملزمة للفلسطينيين في لبنان. فصلاحيات السلطة ـ بــرأي "التحالف" ـ تختصر في الضفة الغربية وقطاع غزة. أما تمثيل الفلسطينيين في الخارج، فما زال موضوعاً معلقاً إلى حين إعادة توحيد مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية، على الأسس التي أقرها حوار القاهرة في منتصف آذار 2005.

لذلك يمكن القول إن السنيورة نجح في قلب الطاولة في وجه الفلسطينيين. وانتقل بالحكومة اللبنانية من موقع الدفاع، أمام اتهامات الفلسطينيين لها، إلى موقع الهجوم. وبدوره انتقل الجانب الفلسطيني إلى موقع الدفاع، مع تسجيل هدف في مرماه لمصلحة السنيورة.

ولا نعتقد أن بقاء التمثيل الفلسطيني في لبنان على حاله الانقسامية يمكن أن يستمر طويلاً، كما لا نعتقد أن بإمكان الفلسطينيين تفويت الفرصة التي أتاحها لهم الرئيس السنيورة. لذلك نرى أن حواراً فلسطينياً - فلسطينياً على مستوى القيادات المحلية في لبنان، يعتبــر خطوة ضرورية، كما نعتقد أن تخويل القيادات الفلسطينية المحلية في لبنان، إدارة الحوار مع الحكومة وفقاً لظروف الحالة الشعبية الفلسطينية، ولقدرتها على تفهم الظروف اللبنانية سوف يسهل على الفلسطينيين من جهة، والحكومة اللبنانية من جهة أخرى الوصول إلى نتائج مرضية، وإن كانت غير نهائية، للحوار المقبل بينهما.

مصادر
النهار (لبنان)