قد تكون المعارضات العربية في حاجة ماسة الى جرعات مركزة من النقد، خصوصاً ان الظاهر من أحوالها هو الاقلاع بعد سنوات من السبات العميق في ظل نظام عربي لم يعرف من ضمائر الرفع المنفصلة الا الـ «انا». ولا ينقذ هذه المعارضات من هفوات الطريق الا دخولها في اللسان السياسي العام كي لا ترث نعوت كائنات الظلام. لكن النقد هذا يتطلب شرطين أساسيين كي لا يشبه السرد السلطوي عن معارضاتها والذي يرمي الى الالغاء من خلال الفرز والكسر من خلال التخوين.

وفي هذا النسق لا تتمايز مقالتا الكاتب السوري محمد سيد رصاص («الحياة» – 24/10-3/11) عن النص السلطوي عن المعارضة، فهما في مقدمتيهما تفعلان الآتي:

اولاً: فرز المعارضة السورية الى فسطاطين لا تلاق بينهما، الاول يضم الماركسيين والقوميين العرب، والثاني ينتمي الى الشق اللاديموقراطي ويضم أطيافاً أخرى مثل الاسلاميين والليبراليين والاحزاب الكردية. وفي غياب أي معيار معتمد للفصم هذا، قد يكون رصاص خير من يعلم ان خلاف الاحزاب الماركسية والقومية العربية مع الحزب الحاكم في سورية طوال العقود الماضية كان على خلفية ايديولوجية لم تكن فكرة الديموقراطية فيه ذات أولوية تذكر حتى قبل عقد واحد.

ثانياً: التشكيك في المعارضة السورية من خلال ربطها بالخارج، وتفسير كل برامجها وتراتبيتها الجديدة بقراءة الشرط الخارجي فقط، وباعتماد اسلوب الغمز الى ذلك المطلب المضمر (التدخل الخارجي) في ضمير المعارضة، مشيراً الى «التوافقات الواردة في (اعلان دمشق) وبين توقيت مؤتمر لندن الذي عقدته المعارضة العراقية عشية الحرب الأميركية على العراق».

ان رؤية السيرورة الذاتية للمعارضة السورية من هذا المنظار يلغيها من طرف حين يفرزها الى ملل ونحل، ويكسرها حين يخونها من طرف آخر، ويقود كاتبها الى مساحات استغرابية شتى. فعلى سبيل المثال، يثير تطور الرؤية السياسية لمعارض سوري مثل رياض الترك الى عملية السلام استغراب الكاتب و»سخطه». فالترك الذي كتب في جريدة «نضال الشعب» عام 1977 رفضاً للسلام مع اسرائيل رداً على زيارة أنور السادات لها، وعاد بعد 23 عاماً فقط ليقول ان السلام مع جزء من المجتمع الاسرائيلي ممكن وربما يساهم في تحجيم القوى الصهيونية والعنصرية فيه. والكلام هذا مستغرب من الترك، بحسب الكاتب، ويعد انزياحاً بفعل واع. والترك الذي قضى تسعة اعشار الأعوام الـ23 التي تفصل بين موقفيه في المنفردات السوداء لأحد اكثر الانظمة العربية راديكالية في خطابها عن عملية السلام وهي في راهنها تعتبره خطاً استراتيجياً. كم يبدو السيد الترك منزاحاً!

وبحسب الكاتب أيضاً، فان تركيز «بيان الألف التأسيسي للجان المجتمع المدني في سورية» على الاوضاع الداخلية السورية وعدم تعرضه للشؤون العربية من فلسطين الى العراق، هو ما يجب ان يحذر منه. هذا البيان الذي جاء بعد عقود من الكبت السياسي والثقافي، ومن عسكريتارية نوعية ذاقها المجتمع السوري طوال سنوات اثرت بعمق في شخصيته المواطنية، وخلقت انقسامات شاقولية داخل نسيجه تهدد وحدته. وقد بشر «البيان» بنواة مدنية اصيلة في الذات السورية، وقال بضرورة تضافر الجهود كلها لبعث هذه الذات المدنية من جديد كي لا تكون جهة قطار الاجيال السورية المقبلة نحو المجهول. فالبيان في ظروفه تلك كان يجب ان يتضمن – بحسب ما يريد الاستاذ رصاص – نبذة عن الحال العربية وموقفاً من قضية الصحراء بين الجزائر والمغرب ورداً على نهج النظام الأريتري ورفضاً لمحادثات جنوب السودان المتآمر منذ عقود... الخ.

واشد ما يثير غرابة الكاتب هو تضمن الخطاب السياسي السوري المعارض مقولات حديثة (الاكراد... الآشوريين... سورية لوحة فسيفسائية... الليبرالية... الخ)، وغياب عبارات أخرى (العروبة... التحويل الاشتراكي... فلسطين). كما يأخذ على المعارضة السورية انها لم تربط احداث القامشلي بما يحدث في اربيل، ويصر على وضع كلمة الاكراد في قوسين اثناء نصه انزياحاً للااعتراف، وان كنا نتفق معه من حيث المبدأ على خطورة ضبابية مسألة العلمانية في برنامج المعارضة السورية.

مصادر
الحياة (المملكة المتحدة)