سوريا تفاجئك دوماً.. هي كطائر الفينيق، تولد باستمرار من تحت الرماد. وهي أيضاً كسمك السالمون الشهير الذي يعشق السباحة في عكس التيار وينجح في ذلك.

العالم شهد عينة من هذه الخصيصة السورية، حين فاجأت بلاد الشام الجميع (ونفسها) العام 2000 بالانطلاقة المذهلة للمجتمع المدني خلال ربيع دمشق القصير، بعد ان ظن هذا الجميع بأن الدولة التوتاليتارية صحّرت المجتمع بالكامل وأحالته طيلة 35 عاماً إلى قاع صفصف.

وهكذا نبتت آنذاك كالفطر مؤسسات المجتمع المدني، وكأنها كانت نائمة منذ الأمس فقط. وبدلاً من صفصف الصحراء، تحولت دمشق وحلب إلى حقول خضراء تفتحت فيها ألف زهرة وزهرة.

والآن، تطل علينا مفاجأة ثانية: الصعود الكبير للوطنية السورية.

فخلال الأشهر القليلة الماضية، خاصة بعد انسحاب القوات السورية من لبنان تحت وطأة الضغوط الأمريكية والدولية الشديدة، بدأت الاشارات تتوالى من بلاد الأمويين بأن المجتمع المدني الذي تيتم سريعاً بعد انهيار ربيع دمشق القصير، يعض على كل جروحه الجديدة والقديمة، ويغلّب المصلحة الوطنية على المصالح الطائفية والفئوية الضيقة، ويتحرك لحماية الوطن عبر إبداء الاستعداد للتصالح مع الدولة التوتاليتارية.

وهذه الاشارات لم تعد إشارات، بل هي تحولت سريعاً إلى برامج عمل سياسي أعلنت فيها كل ألوان المعارضة، الناصرية والقومية كما اليسارية والشيوعية، والاسلامية كما المسيحية، رفضها للتدخلات والضغوط الخارجية. ولم يشذ عن هذا الاجماع سوى حزب الاصلاح السوري (الأمريكي) وبعض الأطراف الكردية والليبرالية السورية.

بالطبع، ليست انتفاضة الوطنية السورية أمراً مفاجئاً تماماً، فهذه العصبية الصحية أثبتت وجودها في وقت مبكر من إنشاء “الدول الامم” في منطقة الهلال الخصيب، حين قاد الدروز العام 1925 الثورة على تقسيم الفرنسيين للبلاد إلى دويلات طائفية ومذهبية، وحين توحّد الجميع سنّة وعلويين ومسيحيين ودروزاً منذ ذلك الحين لتحقيق الاستقلال، وبناء هوية وطنية سورية ذات نبض عروبي قوي في عروقها.

بيد أن بروز هذه العصبية الآن له معنى أعمق. فهو يطلق رسالة واضحة لمن يهمه الامر بأن المجتمع المدني السوري مستعد في 2005 لقيادة النضال العربي ضد مخططات التفتيت الغربية “الاسرائيلية” الجديدة، كما كان في 1925. كل ما يحتاجه هذا المجتمع هو ان تلاقيه الدولة التوتاليتارية في منتصف الطريق، عبر إصلاحات تفك قيوده، وتنقل الدولة من مفهوم السيطرة (القائم على القوة والتخويف والقمع) إلى مفهوم الهيمنة (المستند إلى الاقناع والترغيب وسيادة القانون والديمقراطية).

بكلمات أوضح: على الدولة السورية أن تتخلى عن استبدادها، إذا ما أرادت استخدام الروح الوطنية السورية للحفاظ على البقاء. وهناك الآن فرصة هائلة لتحقيق ذلك عبر إبرام تسوية تاريخية مع المجتمع تحت مظلة القواسم المشتركة التي تخلقها هذه الروح.

من رحم هكذا زواج سعيد بين الدولة والمجتمع، ولدت الدول الأمم الحديثة في أوروبا في القرن التاسع عشر. وعبره استطاعت كوبا الصمود طيلة 43 سنة في وجه حصار أمريكي مطلق. ومن خلاله تقوم الآن دولة صغيرة كفنزويلا بإحباط كل المحاولات التي تقوم بها أمريكا لقلب النظام.

إنه الحس الوطني وقد ارتدى الخاكي دفاعاً عن الدولة والمجتمع معاً.

بيد ان مثل هذا الحس لا يستطيع التحليق إلا بجناحين: الدولة والمجتمع. وحتى الآن، لا تزال الوطنية السورية تحاول التحليق بجناح المجتمع المدني وحده. وهذا لا يستطيع ان يدوم طويلاً، ناهيك عن انه لن ينجح. العروس الوطنية في حاجة إلى عريس هو الدولة كي يكتمل عقد القران التاريخي. وهذا يتطلب ثورة تقوم بها الدولة على نفسها انقاذاً لنفسها وللوطن. فهل تفعل؟

الكل يصلي الآن كي تفاجئنا سوريا، مجدداً.

مصادر
الخليج (الإمارات العربية المتحدة)