ليس بالدبلوماسية وحدها تواجه الدول الأزمات التي تهددها، فالسياسة الخارجية هي امتداد لبيئة داخلية، وهذه البيئة تقوي مركز الدولة، وبالتالي نظام الحكم فيها، أو تضعفها• وقد تستطيع إدارة ماهرة للسياسة الخارجية أن تتلافى الآثار السلبية لبيئة داخلية معاكسة لها لبعض الوقت، ولكن ليس طول الوقت، وينطبق ذلك على سوريا الآن أكثر من أي وقت مضى• فالأزمة التي تواجه نظام الحكم فيها، منذ اغتيال رفيق الحريري في 14 فبراير الماضي، تتفاقم بمعدلات متسارعة• كان شبح الاتهام يحوم حول دمشق من بعيد، ثم أخذ يقترب• ودخلت الأزمة منحى جديداً عندما تحولت تكهنات لا يسندها أكثر من تحليل سياسي إلى شبهات يعززها تحقيق قانوني، وعندئذ ازداد الإيقاع سرعة وأصدر مجلس الأمن بإجماع أعضائه القرار 1636 في آخر أيام الشهر الماضي ملزماً سوريا بالتعاون الكامل مع لجنة التحقيق الدولية ومنذراً بتصاعد أسرع وأشد للأزمة بموجب انطلاقه من الفصل السابع في ميثاق الأمم المتحدة•
لم يهدد القرار صراحة بفرض عقوبات ولا باللجوء إلى مختلف الوسائل لإرغام سوريا على التعاون، ولم ترد فيه عبارة (العواقب الوخيمة) التي ميزت 1441 الصادر في نوفمبر 2003 والذي مهد للحرب على العراق• ولكن هذه كلها تفاصيل تختلف من قرار إلى آخر وفق الظروف المحيطة• أما الأساسي والجوهري فهو أن القرار 1636 والقرار ،1441 وكذلك القرار 731 الذي طالب ليبيا بالتعاون في التحقيقات الخاصة بإسقاط طائرة فرنسية فوق النيجر، هي كلها قرارات صدرت وفق الباب السابع• وهذا النوع من قرارات مجلس الأمن يكون له ما بعده وصولاً إما إلى تنفيذها أو معاقبة الدولة التي امتنعت عن الاستجابة لها• ولا يهم كثيراً، والحال هكذا، الكلمات والعبارات المستخدمة ومدى رقتها أو غلظتها•

هذه المقارنة بين القرارات 1636 و1441 و731 لا تعني بالضرورة أن الرئيس بشار الأسد سيلقى مصير صدام حسين أو يفعل ما فعله القذافي، فهناك طريق وسط أكثر صواباً بين العنترية الكاذبة والاستسلام• فها هو الرئيس العراقي السابق، الذي امتنع فعلياً عن التعاون مع فريقي هانز بليكس ومحمد البرادعي، وراء القضبان بعد القبض عليه في حفرة ضيقة حاول أن يختبئ فيها• وها هو الزعيم الليبي يقدم للولايات المتحدة أكثر مما كان مطلوباً منه ليتجنب أهم ما كان عليه أن يفعله•

كان في إمكان القذافي أن يتجنب تغيير سياسته واتجاهه وخطابه مئة وثمانين درجة، لو أنه شرع في إصلاح نظامه في وقت مبكر نسبياً• ولكنه كان مستعداً لأن يفعل أي شيء إلا هذا التغيير• وكان في إمكان صدام أن يتجنب المهانة التي لحقت به لو أنه بادر بالتنحي ومغادرة العراق لإفساح المجال أمام إصلاح سياسي وإجراء انتخابات حرة تحت إشراف دولي• كما كان في استطاعته أن ينقذ ما يمكن إنقاذه في الدقيقة الأخيرة لو أنه تعاطى باستقامة مع مبادرة القائد الحكيم المغفور له بإذن الله الشيخ زايد بن سلطان•

واليوم يبدو الرئيس بشار الأسد في وضع أفضل مما كان فيه القذافي وليس فقط صدام، فهو بعيد عن دائرة الاتهام في قضية الحريري، كما أن القادة الأمنيين السوريين المشتبه في تورطهم أعلى مستوى بكثير مقارنة بالضابطين الليبيين اللذين ثبت انغماسهما في قضية تفجير الطائرة الفرنسية• ولذلك ستكون معاقبة أولئك القادة -إذا ثبت تورطهم بأدلة قاطعة- كافية لإبعاد السيف عن رقبة النظام السوري برمته، سواء حوكموا في دمشق أو أمام محكمة دولية• فمعاقبتهم ستكون دليلاً على أن شيئاً بدأ يتحرك في دمشق، ولكنها لا تكفي بديلاً عن إصلاح في نظام الحكم السوري• فهذا الإصلاح هو الدليل الوحيد على تغيير يحول دون تكرار مثل هذا التورط ويضمن تطوراً داخلياً يقود إلى تصحيح في مسار السياسة الخارجية يحدث بشكل طبيعي، وليس من خلال تحول دراماتيكي يشبه إعلان الاستسلام على نحو ما حدث في ليبيا•

وحتى إذا اعتقد الرئيس السوري أن التعاون الكامل مع لجنة التحقيق الدولية لا يقتضي أكثر من الوصول إلى الحقيقة والالتزام بمترتباتها، وصولاً إلى معاقبة أي مسؤول سوري يثبت تورطه، فلن يكون هذا ممكناً من دون الشروع في إصلاح سياسي ومؤسساتي• فالمسؤولون الكبار المشتبه في تورطهم، والذين يرجح أن ينتهي التحقيق بتوجيه الاتهام ضد بعضهم على الأقل وربما آخرين معهم، هم عمد المؤسسة الأمنية السورية• وهذه المؤسسة هي الآن عماد نظام الحكم في دمشق والمصدر الرئيس لقوته، ولا تضاهيها مؤسسة أخرى، لأنها تهيمن بدرجات متفاوتة على مختلف المؤسسات المدنية (الحزبية والحكومية والبرلمانية وغيرها)• وتتغلغل في مؤسسة الرئاسة نفسها•

ومؤسسة أمنية بهذه القوة يصعب، إن لم يستحل، التضحية بأبرز قادتها حتى إذا كان الهدف هو حماية نظام الحكم نفسه• ويعني ذلك أنه لا بديل عن إصلاح يقلص نفوذها ويضعها في الحجم الذي يفترض أن تكون فيه إذا اعتزم الرئيس السوري معاقبة قادتها الذين سيثبت تورطهم في قضية الحريري• ولكن هل تسمح المؤسسة الأمنية بإصلاح حقيقي في الظرف الراهن تحديداً؟ السؤال في محله لأن الإصلاح الآن يعرّض قادتها، وليس فقط نفوذها، للخطر• وإذا كانت هذه المؤسسة قد أعاقت إصلاحاً شرع فيه الرئيس بشار الأسد فور توليه السلطة، فمن باب أولى أن تعرقله الآن• غير أن هذا لا يعني أن الطريق الوحيد لتجاوز الأزمة مسدود، ويستطيع بشار الأسد أن يشرع في إصلاح ناجح إذا عقد العزم على ذلك ولجأ إلى شعبه الذي يتوق إلى هذا الإصلاح• وهذا هو ما لم يفعله عندما تولى الرئاسة• فقد حبذ بدء إصلاح كانت سوريا، وما زالت، في أشد الحاجة إليه، ولكنه لم يصر عليه عندما أعاقته المؤسسة الأمنية• لم تكن لديه الإرادة الكافية لأن الإصلاح لم يكن مسألة حياة أو موت بالنسبة إليه، ولذلك ترك زهور ’’ربيع دمشق’’ تذبل قبل أن تتفتح•

والآن، اختلف الوضع كثيراً، أصبح الإصلاح أكثر إلحاحاً، فإذا أدرك الأسد الأمر على هذا النحو، واليوم تحديداً وليس غداً، سيقود إصلاحاً صعباً ولكنه ممكن• فبالرغم من سطوة المؤسسة الأمنية وملحقاتها، تظل لمؤسسة الرئاسة هيبتها في نظم الحكم العربية التي تعني الجمهورية فيها حكم الفرد• فهي أقرب إلى نظم فردية منها إلى النظام الرئاسي الذي يستخدمه كثيرون في الإشارة إليها• ولذلك يستطيع الرئيس الأسد تحقيق الإصلاح الذي تأخر حتى إذا اضطر إلى فرضه بالقوة عبر معركة تضعه في مواجهة بعض من أهم قادة المؤسسة الأمنية، وحتى إذا كان بينهم شقيقه ماهر وصهره آصف شوكت•
لقد خاض الراحل حافظ الأسد معركة ضد شقيقه رفعت عم الرئيس بشار في صراع على السلطة، وسيكون بشار في موقف أفضل إذا اضطر لأن يخوض مواجهة ’’عائلية’’ أخرى لأنه يفعل ذلك هذه المرة من أجل الإصلاح الذي بات سبيلاً وحيداً لإنقاذ السلطة والوطن•

لن تكون المعركة سهلة لأن الشقيق والصهر يحتلان موقعين بالغي الحيوية والحساسية لأمن النظام، ولا ننسى أن ماهر الأسد يقود إحدى أقوى الوحدات العسكرية السورية• كما أن هذه الوحدة (اللواء الرابع) هي التي تحمي مداخل دمشق• ولكن (سرايا الدفاع) التي كان رفعت الأسد قائدها لم تكن أقل قوة، فضلاً عن أن قيادتي الجيش والحرس الجمهوري القوي مواليتان تماماً للرئيس•

معركة صعبة، إذن، ولكنها قد تكون خياراً وحيداً إذا اضطر إليها الرئيس الأسد واقتنع بأنها السبيل لإنقاذ بلاده ونظامه وأدرك أن للتحرك الدبلوماسي، إقليمياً ودولياً، حدوده الضيقة في إدارة أزمة بهذا الحجم• فليس غير الإصلاح الذي يُحوِّل سوريا تدريجياً من دولة أمنية إلى دولة لمواطنيها سبيلاً لإنقاذها•

مصادر
الاتحاد (الإمارات العربية المتحدة)