نعم، ثمة وجاهة في وصف الخطاب التالي بأنه <<خشبي>>: إن ما تشهده المنطقة هو، في العمق، حملة استعمارية أميركية تحتضن وترعى اندفاعة توسعية صهيونية. وربما تقل نسبة <<الخشبية>> إذا أضيف إلى ما تقدم: <<إن الأزمة البنوية التي نعيشها تسهّل وقد تستدعي الهجمة التي نتعرض إليها>>.

في المقابل ثمة وجاهة في وصف الخطاب التالي بأنه <<أبله>> (مغرض بالأحرى): <<إن ما تشهده المنطقة هو في العمق اندفاع المجتمع الدولي والشرعية الدولية إلى ترتيب أوضاعها وإدراجها في مجموعة الدول المتمدنة ونقل الديموقراطية إليها ومعاقبة الديكتاتوريين والمجرمين على ارتكاباتهم>>.

بين <<الخشبية>> و<<البلاهة>> (أو الغرض) يبقى الخيار الأول هو الأفضل خاصة أننا لا نعرف لغة <<خشبية>> أكثر من تلك التي تتهم الخطاب القومي الديموقراطي بأنه <<خشبي>>.

إن قضيتي غوانتانامو وأبو غريب حيّتان في الولايات المتحدة أكثر بكثير ممّا هما لدينا. ويمكن الرهان أن قضية التعذيب الأخيرة المكتشفة في العراق ستثير ضجة <<هناك>> أكبر من الضجة التي ستثيرها <<هنا>>. ويمكن قول الشيء نفسه عن الاعتراف المتأخر للبنتاغون بأن قوات الاحتلال استخدمت <<الفوسفور الأبيض>> في <<تنظيف>> الفلوجة. هذا ما قاله الناطق الأميركي باسم وزارة الدفاع في شرحه <<لتقنية استخدام الفوسفور>>: <<عندما تكون في مواجهة قوات عدوة، ومدفعيتك المزودة متفجرات قوية لا تفعل فعلها، وأنت تريد إخراج العدو من مواقعه... المزيج بين النار والدخان وأحياناً الرعب الذي قد تتسبّب به الانفجارات سيخرج الأعداء من مخابئهم بحيث تكون عندها قادراً على قتلهم بقذائف قوية>>. هذه القذائف القوية أكد الناطق هي <<سلاح حارق>>. ما تجاهل الناطق قوله هو أن الإدارة نفت على الدوام اللجوء إلى هذه التقنية حتى بعد أن كشفها التلفزيون الإيطالي. وما تجاهله أيضاً، هو أن الجيش الأميركي كان يواجه في الفلوجة مئات من المقاومين وليس <<قوات عدوة>> وعشرات الآلاف من... المدنيين.

يجب أن يكون المرء ذا عقل <<خشبي>> وعواطف <<خشبية>> حتى لا يضبط نفسه متلبساً، أمام هذا الاعتراف، بالذهاب في تفهّم المقاومين الراديكاليين إلى أبعد حد ممكن.

<<الفوسفور الأبيض>> كذبة جديدة انكشفت وتضاف إلى ما يمكن اعتباره، بحق، سجلاً من الأكاذيب.

نشرت <<واشنطن بوست>> أمس وثيقة أماطت اللثام عن حقيقة حاولت الإدارة التستير عليها على امتداد أربع سنوات على الأقل. لقد بات محسوماً أن ممثلي كبريات الشركات النفطية شاركوا في وضع سياسات الطاقة الرسمية بالتعاون مع نائب الرئيس ديك تشيني ومكتبه. ولقد سبق للمعنيين كلهم أن نفوا الواقعة في شهادات. وديك تشيني، نفسه، لم يخرج بعد من دائرة الشبهة في ما اتهم به نائبه لويس ليبي من كذب تحت القسم وعرقلة العدالة في ما يخص دوره بفضيحة فاليري بلايم المتصلة بالفضيحة الأكبر الخاصة بالتأكيد على امتلاك العراق ترسانة من أسلحة الدمار الشامل وبرنامجا نوويا.
ولقد عادت هذه القضية لتطارد الإدارة. إنها قضية مطروحة بإلحاح في الحياة السياسية الأميركية اليوم (كدنا نقول في الإعلام الأميركي لولا أن <<حركة اليسار الكولونيالي>> هي بالمرصاد لكل من يقرأ صحيفة أميركية أو يقوم ببحث عبر <<أنترنت>>. لقد كانت <<الكولونيالية>> دوماً أرقى من <<كهنتها>> المحليين). والقضية المشار إليها مطروحة، حالياً، من زاوية أن
الإدارة تلاعبت بالمعلومات، وضخّمت المخاطر، وكذبت قصداً، واستدرجت الأجهزة لتقديم معطيات مغلوطة، وأدى ذلك كله إلى تزوير العملية الديموقراطية الأميركية ما أدى إلى اتخاذ القرار بالحرب... ولما انكشفت عملية التزوير في المتروبول شرعت الإدارة تؤكد على رغبتها بنشر الديموقراطية في المستعمرات!

حصل ذلك، وغيره الكثير، في ظل الشعار الذي رفعه جورج بوش عن <<عودة الأخلاق إلى البيت الأبيض>>. إن العقوبة الوحيدة التي يمكن للأميركيين إنزالها برئيسهم هي نزع الثقة عنه. وهذا ما يفعلونه كما تشير استقصاءات الرأي وكما تؤكد انتخابات فرعية. ولقد اشتكى جمهوريون فشلوا في انتخابات أجريت أخيراً من أنهم دفعوا ثمن السلبية الشعبية المتزايدة حيال الرئيس وسياساته.
ولعل هذه الأجواء المستجدة هي وراء إقدام الديموقراطيين على التجرؤ ووراء إقدام الجمهوريين على التبرؤ. لم يعد الأوائل يخشون تقديم مشروع قانون إلى مجلس الشيوخ يطالبون فيه ب<<جدول زمني تقريبي>> للخروج من العراق، ولم يعد الأخيرون يستطيعون الرد إلا بمشروع قانون، تحوّل إلى قانون، يطالب الإدارة باعتبار 2006 <<المرحلة الانتقالية التي ينبغي أن يتم خلالها التوصل إلى سيادة عراقية كاملة>>.

لا يخلو هذا التطور الأميركي الداخلي من أهمية. ولقد اضطر بوش إلى الرد على طلائع هذه الهجمة بالهرب إلى الأمام، وبالإكثار من الأكاذيب، وباعتبار أي تشكيك بسياسته نوعاً من <<دعم الإرهاب وإساءة بالغة إلى الجنود في ساحات القتال>>. إلا أن الرد تلاشى بسرعة تؤكد أن الساحر بدأ يفقد بعض مهاراته.
سيكون عام 2006 شديد الأهمية إذاً. لكن <<اللغة الخشبية>>، قاتلها الله، تحب أن تنسب إلى الإدارة الأميركية نوايا خبيثة. من هذه النوايا أن بوش سيحاول جعل 2006 انتقالياً بالنسبة إلى غيره، أي إلى آخرين في المنطقة. بكلام آخر يميل <<المنطق الخشبي>> إلى توقع تصعيد حيث أمكن، وفي لبنان وسوريا على الأرجح.
عندما يتحدث الأميركيون عن سوريا فإنهم يكذبون أقل مما فعلوا عشية الحرب على العراق. يحددون مطالبهم بوضوح. ومع ذلك نجد من ينسب إليهم نوايا أخرى ولو أنه يصعب على فريد الغادري، حتى الآن، تكرار أحمد الجلبي.

ولكن عندما يتحدث الأميركيون عن لبنان فإنهم يعودون إلى رفع منسوب الكذب إلى مستواه <<العراقي>>. ولعل مناورتهم، عندنا، تلقى بعض النجاح خاصة في ظل المشاركة الفرنسية، وتغطية الأمم المتحدة، وانكفاء الرأي العام العربي والدولي فضلاً عن طبيعة الاتهام.

نحن هنا أمام حالة معقدة تريد استلال عناصر واقعية ومقنعة من أجل وضعها في سياق سياسة ذات أهداف أخرى. ولأن الحالة معقدة فإنها توفر للغة <<البلهاء>> القدرة على تسجيل نقاط ضد <<اللغة الخشبية>>.

مصادر
السفير (لبنان)