إن أسوأ ما تعيشه المنطقة العربيّة في الحقبة الزّمنيّة الرّاهنة هو هيمنة نهج التّطرف على معظم أحداثها ووقوع المنطقة وشعوبها ضحايا لهذا النهج، كما هو أيضاً حال العالم كلّّه الآن.

ولأنّ التّطرّف يعيش ويتغذّى من بعضه البعض، فإنّ القرن الحادي والعشرين خاضع في عقده الأول لأفعال وردود أفعال، تنطلق من عقائد وجماعات وأفراد تتّسم بسمة التطرّف الفكري والسّلوكي.

ولا أعلم إذا كانت مصادفة زمنيّة هي أن تعيش المنطقة العربية حقبة يخضع قرار الفعل فيها لمتطرّفين دينيّين وسياسيين يحكمون الآن أكبر قوة في العالم (الولايات المتحدة)، وأكبر قوة إقليمية في الشرق الأوسط (إسرائيل)، بينما تسود أيضاً سمة التطرّف الديني والسياسي على من يواجهون مشاريع التطرّف الأميركي والإسرائيلي.

فهل كانت مصادفة زمنيّة أن يكون العام 2001 هو عام بدء حكم "المحافظين الجدد" في أميركا مع ما هم عليه من صفة تطرّف عقائدي بطابع ديني مسيحي، وعام وصول شارون لرئاسة حكم إسرائيل على قاعدة تطرّف ديني يهودي، مع بروز "القاعدة" ووقوع أحداث الإرهاب في أميركا على أيدي جماعات متطرّفة بطابع ديني إسلامي؟

السّمة المشتركة بين كل جماعات التطرّف هنا وهناك أنّها تستخدم العنف المسلح بأبشع صوره ولا تميّز بين مدني وعسكري، وهي تقوم بأعمالها بحجّة ردّة الفعل على فعل متطرّف من الجهة الأخرى.

فما نعيشه الآن ليس بحرب على الإرهاب، ولا بمقاومة للمشروع الأميركي الصهيوني المتطرّف، بل هو حرب التَّطرّف من جهة على التّطرُّف في الجهة الأخرى. إنّها حرب مزيج الخطايا الّتي يخدم كل منها الآخر عمليَاً، وإنْ كان يناقضه نظريّاً.

إنّ الأحداث الإرهابيّة في أيلول/سبتمبر 2001 هي المسؤولة عن إطلاق أيدي "المحافظين الجدد" في أميركا... وهي المسؤولة أيضاً عن إشاعة مناخ مساواة الإرهاب بالمقاومة ضدَّ الاحتلال، إضافة إلى خطايا ممارسات محليّة عربيّة وإسلاميّة في أكثر من مكان.

ثمّ أنَّ الأعمال الإجراميّة الّتي قامت وتقوم بها حكومة شارون ضدّ الشعب الفلسطيني هي المسؤولة عن ردود الفعل الفلسطينية الّتي استباح بعضها أعمال العنف ضدّ المدنيين على الطرف الآخر.

والإدارة الأميركيّة هي المسؤولة عن إشعال مشاعر الغضب في العالم الإسلامي، بل العالم بأسره، ضدّ الولايات المتحدة حينما قامت بشنّ حرب على العراق دون أيّة مشروعيّة دوليّة ولصالح أجندة الحاكمين في واشنطن. وكانت السياسة الأميركيّة في العراق، وما تزال، هي المسؤولة عن تشجيع الفلتان الأمني فيه وتحويله لساحة صراع مع جماعات التّطرّف الإسلامي الّتي انتقلت، بعملها الإجرامي الإرهابي الأخير في الأردن، من حال التمركز في العراق إلى الانتشار وتوسيع الدائرة الإرهابيّة في عموم المنطقة.

وفي السنوات الماضية، شهدت عدّة بلدان عربيّة أعمالاً إرهابيّة تنسجم مع طبيعة ما حدث في الأردن وما يحدث يوميّاًَ في العراق ضدّ العراقيين والمدنيين الأبرياء، فقد أصبحت المنطقة العربيّة خاضعة لمطرقة التّطرُّف الأميركي والإسرائيلي من جهة، ولسندان التّطرُّف الإسلامي من جهة أخرى، والضحية في الحالتين عربيّة سواء الأوطان أو المجتمعات أو الشعوب.

فما بين التطرّف الحاكم هنا، والتطرّف المعارض هناك، تتهدّد وحدة الكيانات العربيّة ويتهدّد الاستقرار والاقتصاد والحياة الاجتماعية في أكثر من بلد عربي.

الإدارة الأميركيّة ترى أنَّ "الفوضى" في المنطقة العربيّة قد تكون مدخلاً لأوضاع أفضل، في حين أنّ هذه "الفوضى" تحمل مؤشرات لحروب أهليّة وشروخات في المجتمعات العربيّة وبيئة ممتازة لمزيد من جماعات العنف المسلح والإرهاب، وهذه "الرّؤية" الأميركيّة لمستقبل المنطقة مدعومة الآن بقوّات أميركيّة تنتشر داخل الأرض العربيّة وبعناصر ضغط سياسي واقتصادي وأمني على أكثر من صعيد.

في المقابل، فإنّ نهج التطرّف المعادي للسياسة الأميركيّة يساهم في تحقيق الفوضى الأمنيّة والسياسيّة ويعطي المزيد من الأعذار لمزيد من التدخّل الأجنبي والهيمنة الدوليّة على المنطقة وشؤونها.

أمّا نهج التطرّف الإسرائيلي، فهو مستفيد في الأحوال كلّها ومن كل الأعمال وعلى سائر الجهات.

إنَّ نهج المقاومة السليمة لسياسة التطرّف الأميركي/الإسرائيلي يقتضي مشروعاً بديلاً لنهج التطرّف السائد بأسماء عربيّة وإسلاميّة، وهذا ما هو غائب حتّى الآن. فهناك تطرّف سائد الآن ليس فقط في المجالات الوطنيّة العامة، بل أيضاً في المسائل الفكريّة والسلوكيّة داخل معظم البلاد العربيّة.

إنَّ الشباب العربي موزّع الآن بين جماعات دينيّة متطرّفة من جهة، أو نحو انشداد كبير للسلبيّة والتوافه الإجتماعيّة من جهة أخرى. ولا يجد الجيل العربي الجديد الأطر السياسيّة والتنظيميّة القادرة على استقطابه وتفعيل طاقاته بشكل إيجابي وبمضمون معتدل فكريّاً وسياسيّاً. وهذا الجيل، مثله مثل عموم الشارع العربي، يعاني من أزمة ثقة في القيادات والمؤسسات القائمة على العمل العام والّتي تحاول النشاط والحركة خارج دائرة التطرّف السائدة الآن.

هي حقبة سوداء ظالمة ومظلمة تعيشها المنطقة العربيّة، لكن ضعف التطرّف في أحد الطرفين سيضعف التطرّف في الطرف الآخر. وأعتقد أنَّ السّنوات القليلة القادمة ستشهد انحسار قوّة جماعات التطرّف الحاكمة في أميركا وإسرائيل، ويبقى السؤال في المنطقة العربيّة عن مدى جاهزيّة الأطر البديلة فكريّاً وعمليّاً لنهج التطرّف حتّى لا تكون هزيمة التطرّف من جهة انتصاراً للتطرّف على الجهة الأخرى.