<<لكن لبنان الواقعي هو مقر وممر للتآمر على النظام السوري. ليست هذه نوايا اللبنانيين كلهم، وليست هذه بالتاكيد نوايا فؤاد السنيورة، ولكن هذه هي الحقيقة...>>.

لم يسبق للصديق العزيز الاستاذ جوزف سماحة ان قدم نفسه يوما مالكا للحقيقة. ولست أضيف شيئا الى قيمته الفكرية والصحافية ان قلت انه من قلة من الكتاب اللبنانيين، وربما العرب، الذين لا يمكن ان يمر كلامهم مرور الكرام. نحن، معه، نكون عادة امام نص عميق، محاجج، وغير متشنج. بكلام آخر امام نص ديموقراطي.
ولأنه كذلك، لم ينتسب سماحة يوما الى تلك المدرسة الفكرية التي يعلن خريجوها <<الحقيقة>> الابدية، وجديدها ما سمعناه قبل ايام من ان لبنان بات مقرا وممرا بل ومصنعا للتآمر على سوريا، فضلا عن تصنيف الناس بين عبيد واسياد.

كيف نجزم بهذه <<الحقيقة>> وبناء على اي مقياس؟
لنعترف اولا بأن هناك اليوم مزاجا لبنانيا شبه عام معاديا للنظام السوري. الاسباب معروفة وهي تتراوح بين فاشية مَرَضية نموذجها الابرز حفنة ممن نصبوا انفسهم حراسا للارز وباتوا في السجن، وبين شعور وطني لبناني خالص استنهضته ممارسات النظام الامني المشترك وفجرته جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري.
خارج هذا المزاج العام، الذي لا يصنع بذاته مؤامرات، هناك القوى السياسية التي تشكل المشهد السياسي اللبناني اليوم والمؤهلة وحدها لان تكون صاحبة <<مصنع التآمر>> على سوريا. فمن هي هذه القوى؟

بالتأكيد ليس المقصود الرئيس اميل لحود ومؤيديه ولا حزب الله أو حركة أمل ولا الحزب السوري القومي الاجتماعي. وأزعم ان الاستاذ سماحة لا يعتبر الحزب التقدمي الاشتراكي من بين المتآمرين ولا تيار المستقبل. الا اذا كان يعتبر ان فؤاد السنيورة في مكان وسعد الحريري في مكان آخر، فيكون مخطئا.

القوات اللبنانية في صدد اعادة لم صفوفها، وخطاب قائدها حتى الآن خطاب شديد الاعتدال لا تشتم منه اي رائحة او نية او قناعة او القدرة على التآمر على سوريا. اما العماد ميشال عون، فلم يضع نفسه في موقع العداء لسوريا منذ خرجت قواتها من لبنان، والكل يعرف ان هذه المسألة شكلت مأخذا عليه في فترة من الفترات ووضعت في سياق طموحاته الرئاسية. يبقى حزب الكتائب ولقاء قرنة شهوان. هل هذان التياران بوضعهما الحالي هما حقا قوتان متآمرتان على سوريا؟

اذاً من هم اللبنانيون اصحاب <<النوايا>> الشريرة الذين اشار اليهم الاستاذ سماحة؟

<<الحقيقة>>، على ما ازعم، هي ان من يؤذي سوريا ونظامها اليوم، هو الاداء السياسي والدبلوماسي والاعلامي السوري.
مسألة <<التآمر>> على النظام السوري، ادرجها الاستاذ سماحة في سياق مجموعة من المواقف او الحالات في لبنان وحوله، للتدليل على ازمة متصاعدة اعتبر ان سببها انكفاء السياسة.
قد يكون التوصيف صحيحا، لكن الإنصاف يقتضي مناقشة اسباب <<انتهاء السياسة>> وتحديد المسؤوليات جرنا <<بخطى ثابتة ومنهجية>> نحو الازمة.

ولنبدأ بحزب الله. لماذا يقترب الحزب من حافة اليأس من السياسة كما يقول الاستاذ سماحة، فيغيبها ويعرض قوته امام الآخرين <<للحصول على بعض ما يريد>> بعدما صرف بلا جدوى الكثير من <<الوقت والجهد>> من اجل اقناعهم؟

وما هي السياسة التي يريدها حزب الله كي لا يصل الى مرحلة اليأس؟ ان نقول للبنانيين ان جماعة منكم، كان لها فضل لا يناقش في تحرير الجنوب، قررت ان تبقى مالكة لقرار الحرب والسلم نيابة عنكم جميعا؟ وانها قررت ان تضع للبنان كله برنامجه في العلاقة بالصراع العربي الاسرائيلي في الحاضر والمستقبل؟ وان عليكم ان تتحملوا ما يمكن ان يشكله هذا الوضع من خطر في ظل الهجمة الاميركية الشرسة على المنطقة لان الحزب لا يتخذ قرارات متسرعة بل هي تنظر الى الامور من منظور شامل يبدأ في ايران ويمر بالعراق وينتهي بغزة؟
السياسة هي ما فعله فؤاد السنيورة وسعد الحريري ووليد جنبلاط وكل الحريصين فعلا على حماية المقاومة. وخلاصتها هي ان هذه المقاومة هي شرف للبنان وهو فعلا متمسك بها، وانه قادر بالحكمة والتماسك وبالحوار على ايجاد تسويات تلبي متطلبات الشرعية الدولية، التي لا قبل لنا بمواجهتها، وتصون هذه المقاومة باعتبارها مكونا اساسيا من مكونات هذا الوطن.

السياسة هي ما كان <<سيد المقاومة>> يسمعه من الرئيس الشهيد؟ واعتقد انه ما زال يسمعه من خلفه.
اما القرار 1636، فيقول الاستاذ سماحة بانه <<يقوم جوهريا على نفي السياسة لانه لا يفتح نافذة لأي حوار او تفاوض>>، وبانه ايضا <<قرار سياسي له نتائج سياسية هائلة الاثر>>... افهم من هذا الكلام التالي: ان القرار 1636 <<قرار ذو دوافع سياسية، وليس قضائية، المقصود منه النيل سياسيا من سوريا، وهو يحرم دمشق من اي فرصة للاخذ والرد>> قد تؤدي الى التملص من التحقيق.
اذا كان هذا الكلام صحيحا، فمن المسؤول؟ أليست سياسة نفي الاعتراف بالشرعية الدولية، كما حصل بعيد صدور القرار 1559، ونفي المتغيرات الحاصلة في العالم ونفي الاختلال الهائل في موازين القوى، وقبلها وبعدها نفي التململ اللبناني الحقيقي ثم نفي الخصوم، معنويا او جسديا، موقتا او الى الابد، أليست كلها ما ادى الى نفي السياسة؟

اما حكومة فؤاد السنيورة فيعيب عليها الاستاذ سماحة انها غائبة عن اتخاذ <<قرارات تهم المصير الوطني اللبناني>>، وانها تخلت عن حقيها في قول رأي او الدفع في اتجاه..
أليس في هذا بعض الظلم؟

أيطلب من هذه الحكومة، في هذه الفترة القصيرة من عمرها وبعد الزلزال الهائل الذي سماه الاستاذ سماحة نفسه بعيد اغتيال الرئيس الحريري بانه <<تسريع للتاريخ>>، ان تتخذ قرارات تاريخية؟
كيف ووضع رئيس الجمهورية بما يمثل معلق بالطريقة التي نعرف؟ كيف والاجهزة الامنية التي سلمت ركاما ما زالت في طور البناء؟ كيف ونحن لا نعرف بعد ما اذا كان مسلسل التفجيرات قد توقف فعلا ام لا؟ كيف وبعض قادة البلاد خائفون فعلا على ارواحهم؟ كيف وما زال هناك من يهددنا بتكسير البلاد فوق رؤوسنا؟ كيف ومجلس الوزراء كاد ينفجر لمجرد ان فكر رئيسه بالرد على شتيمة؟ كيف وبعض الكلام خارج الحدود ما زال يلقى صدى فوريا في الداخل؟
وفي سياق التدليل ايضا على ان السياسة <<معلقة>> يريد الاستاذ سماحة من الاكثرية النيابية تصورا للبنان الذي يعيش مرحلة تأسيسية.

أليس بإمكاننا ان ننتظر قليلا لنتأكد من ان هذه الاكثرية سوف تجتمع، من دون ان تموت، كي تضع هذا التصور؟ الا نريد ان نعرف مسار التحقيق وبالتالي مصير رئيس الجمهورية قبل ان نضع تصورنا للبنان المستقبل؟ الا نحتاج الى انقشاع الغيوم، الامنية على الاقل، كي تمارس هذه الاكثرية اكثريتها؟
نعم السياسة معلقة، والوضع في ازمة...
لكن التحقيق ليس هو الطارد للسياسة. من طرد السياسة هو الجريمة التي بدأت منذ سنوات طويلة علقت فيها السياسة فعلا، ثم خرجت سافرة عارية بلا وجل في الرابع عشر من شباط.
يومها رحل رفيق الحريري، لكن نسمة هبت في شوارع بيروت تعلن ان السياسة بدأت رحلة العودة.

المخاض لم ينته.. انه عسير ومؤلم.. لكنه ليس ابديا.

مصادر
السفير (لبنان)