اللبنانيون مثل كل شعوب الدول الصغيرة و"الضعيفة" لا يثقون مئة في المئة في نيات الدول الكبرى والعظمى حيالهم، فالعامل الأساسي بل الأول الذي يسيّر هذه الدول ويحدد سياساتها هو مصالحها. والمصالح الحيوية تبقى لكن وسائل تأمينها والمحافظة عليها تتغير. ففي ماضٍ غير بعيد كانت المحافظة على صدام حسين ونظامه في العراق مصلحة أميركية (أثناء حربه مع ايران الاسلامية). وفي ماض قريب جداً صارت ازالته هي المصلحة كل المصلحة. وفي ماض غير بعيد أيضاً اعتبرت الولايات المتحدة دور سوريا المباشر في لبنان أي عبر وجودها العسكري فيه بنّاء وفي ماض قريب جداً صار استمرار هذا الدور مؤذياً للبنان ولمصالحها في المنطقة فكان من الواجب بل من المصلحة انهاؤه، وانتهى. طبعاً ما كان ذلك ليحصل لولا سلسلة اخطاء بل خطايا سورية مباشرة وأخطاء نظام لبنان وكل حلفاء سوريا فيه، ذلك انهم اعتبروا انفسهم "أذكى" من الاميركيين بل من العالم أولاً عندما اعتقدوا ان موافقة واشنطن على الدور البنّاء في لبنان موافقة على تطويعه تمهيداً اما لاحتوائه عملياً او لضمه قانوناً وثانياً عندما ظنوا ان في مقدورهم تهديد المصالح الاميركية والنجاة من أي عقاب.

لذلك كله عبّرنا في "الموقف هذا النهار" الاسبوع الماضي عن بعض التحفّظ تجاه المعلومات الأكيدة الواردة من واشنطن عن دعمها والمجتمع الدولي اللامحدود للبنان ولرئيس حكومته فؤاد السنيورة، وهو دعم وصل الى حد القول ان اقدام سوريا بشار الأسد على تخيير ادارة الرئيس جورج بوش اليوم بينها وبين السنيورة سيجعلها تختار الاخير وتواصل دعمه. ذلك ان التجاوب مع لبنان وغيره من الدول التي في حجمه او حتى الاكبر منه ليست مشجعة او بالأحرى لا تدفع في اتجاه الثقة المتناهية.

الا ان اصحاب المعلومات المشار اليها وهم اميركيون واسعو الاطلاع مع اعترافهم بأن القاعدة هي عدم الوثوق المطلق بالدول الكبرى او العظمى اعتبروا ان الوضع اللبناني الحالي بتعقيداته الاقليمية وبانخراط المجتمع الدولي بقيادة اميركا وفرنسا في محاولة معالجة مشكلاته الداخلية ومع سوريا المؤثرة فيها يمكن ان يشكل استثناء وان محدوداً للقاعدة المذكورة. وهو استثناء يثبتها ولا ينقضها كما يقال.

ما هي اسباب ثقة هؤلاء الاميركيين الواسعي الاطلاع بصدق الدعم الاميركي والدولي للبنان ورئيس حكومته فؤاد السنيورة في هذه المرحلة؟

هناك سبب واحد فقط لا غير، يجيب هؤلاء، هو الرئيس جورج بوش. فهذا الانسان يكره ان يعترف بأنه أخطأ لايمانه ان ذلك يظهره ضعيفاً. لذلك فانه عندما يضع سياسة فانه يندفع في تطبيقها الى النهاية وان كانت تكلفتها بالغة جداً. بل وان فاقت هذه التكلفة المكاسب المتوقعة أو المرجوة. والرئيس جورج بوش مع كل المحيطين به مقتنعون بأن الحرب على المتطرفين والارهاييين مثل تنظيم "القاعدة" وغيره هي حرب وجود ولا بد من الانتصار فيها. وهم مقتنعون أيضاً بأن خسارتهم اياها ستجعل هؤلاء المتطرفين يلحقون بهم وببلادهم وبأن المصالح الاميركية المتنوعة وخصوصاً الحيوية منها ستكون أهدافاً أساسية بل رئيسية لهم. وهذه الحرب تخاض بطرق عدة. فهي حرب مفتوحة على جبهتين هما افغانستان والعراق. وهي حرب سرية او غير معلنة على ساحات عدة في انحاء متنوعة من العالم. وهي حرب "اقناع" أو بالأحرى اجبار الدول التي تدعم المتطرفين أياً يكن حجم هذا الدعم وطريقته على الكف عن تقديمه. وهي حرب اشاعة الديموقراطية من دون محاولة فرض مضمون واحد لها لأن لكل بلد ظروفه واوضاعه واعتباراته. وفي هذه الحروب مارست ادارة بوش ولا تزال تمارس ضغوطاً متنوعة في كل الاتجاهات. والظاهر من هذه الضغوط حالياً أكثر من غيره هو الذي يمارس على ايران وسوريا. واذا كان الاميركيون قد صاروا قاب قوسين او ادنى من اليأس من سوريا فانهم لم يصلوا الى يأس مماثل من ايران. وقد لا يصلون اليه. فهم مقتنعون بأن المسؤولين الايرانيين يتحلون بالقدر اللازم من العقلانية وخصوصاً في ما يتعلق بالموضوع اللبناني (حزب الله – سوريا...). وقد ظهر ذلك من خلال الاتصالات التي لم تنقطع بينهم وبين الأمم المتحدة والتي تركز فيها الاخيرة على القول ان تعاون سوريا وتجاوبها مع المجتمع الدولي هو وحده الكفيل بمنع التدهور والانزلاق نحو الفوضى او الحرب او الفتن.

هل يستطيع الرئيس جورج بوش متابعة سياساته الشرق الأوسطية (عراق وسوريا) في ظل الهجمة التي يتعرض لها في الداخل وفي ظل انخفاض شعبيته عند مواطنيه بل في ظل شكهم في صدقيته بعد انكشاف عدم وجود اسلحة دمار شامل في العراق؟

يعرف الاميركيون الواسعو الاطلاع انفسهم أن بوش يواجه مشكلات داخلية كبيرة وبأن الضغوط عليه بسببها ستزداد كلما اقترب موعد انتخابات الكونغرس بمجلسيه الواقع في تشرين الثاني المقبل اي بعد نحو سنة من الآن. لكن سوريا في رأيهم لن تقوى على الصمود حتى ذلك التاريخ وتالياً لن تتمكن من الافادة من كل ما يمكن ان يتعرّض له الرئيس الاميركي وادارته. فأمام سوريا فرصة حتى مطلع الربيع المقبل في رأيهم لتقرر اما التجاوب والتعاون التام واما المواجهة بكل الوسائل. كما ان انزعاج الرأي العام الاميركي بشقيه المؤيد لبوش على تقلص حجمه والمعارض له من المسار السلبي للاوضاع في العراق يعتبر ان سوريا هي احد ابرز المتهمين بالتسبب بالمسار المذكور وبتفاقم المشكلات داخل العراق. وهذا يعني أو يفترض ان يعني ان الضغوط التي يمارسها بوش حالياً والتي ستزداد في الاشهر المقبلة ستلاقي دعماً شعبياً داخلياً وسياسياً ولا سيما ان هدفها الآن ليس اسقاط النظام السوري. ولن يكون ذلك هو الهدف مستقبلاً، على الاقل في المستقبل القريب.

انطلاقاً من ذلك يؤكد هؤلاء الاميركيون انفسهم ان رئيس الحكومة فؤاد السنيورة يحظى كما سلفه الراحل رفيق الحريري بدعم بوش ومعظم حلفائه على الساحة الدولية ومعظم العرب وهو يحظى بالانتباه نفسه والرعاية نفسها التي حظي بها سلفه. وهما سيستمران ما دام في حاجة اليهما، وما دام راغباً في متابعة المسيرة التي يقود. طبعاً يصب ذلك في مصلحة اميركا وحلفائها. لكنه يصب أيضاً في مصلحة لبنان. وهذا ما يجب ان ينتبه اليه الجميع.

مصادر
النهار (لبنان)