العنوان السابق هو عنوان كتاب صدر في عام 1988 بالانكليزية من دار نشر بريطانية (لا اعرف أن كان ترجم الى العربية أم لا) للكاتب موسى ماعوز، والعنوان كناية عن الثبات والصمود، وهو كتاب يتابع بشكل حثيث حياة وأعمال الراحل حافظ الأسد حتى وقت النشر، ولا استطيع أن اجزم بأن الكتاب متعاطف مع تلك المسيرة، الا انه يسبر أغوار رجل ونظام يعترف الكاتب انه خلق من سورية لاعبا أساسيا في الشرق الأوسط لا يستهان به، ولا يمكن تجاهله, لعل الاشارة الى موقف الأسد الأب الأكثر ملاحظة وقتها هي موقفه من تقدم القوات السورية في الأراضي الأردنية بأوامر الثنائي (يوسف زعين وابراهيم ماخوس)، لانقاذ المقاومة، ونحن نتحدث عن أحداث سبتمبر وما قبله عام 1970. وقتها وزير الدفاع حافظ الأسد نفسه، حرم هذا التقدم من الغطاء الجوي، ثم حدث بعدها ما عرف بثورة التصحيح التي أوصلت الأسد نفسه الى قمة السلطة، ويحتفل بذكراها الرابعة والثلاثين الاخوة السوريون هذه الأيام, يحار الكاتب في توصيف المرحوم حافظ الأسد بين ما اذا كان هو بسمارك العرب أم ميكيافلي سورية! ولكنه يعطيه حقه (بعد ثمانية عشر عاما من الحكم، وقت صدور الكتاب) انه قدم لسورية الاستقرار، عن طريق قراءة جيدة وثاقبة للتطورات الاقليمية الدولية المحيطة.
في عام 1992 وكانت سورية دخلت التحالف الدولي لتحرير الكويت، وأبليت فيها بلاءا حسنا، قابل كاتب هذه السطور في زيارة الى دمشق السيد جبران كورية، بعد لقاء مطول –مع آخرين بالرئيس نفسه –وقتها كان جبران المسؤول الصحافي للرئيس الراحل، وفي اشارة الى حذق معلمه الرئيس حافظ الأسد، قال بشيء ليس بعيدا عن الفخر: «لقد توقع الأميركيين أنهم سوف يقُوصوا – يطلقوا النار- على صدام حسين، وحافظ الأسد معا في وقت واحد، ففوجئوا أن حافظ الأسد قد وقف خلفهم»! في اشارة الى الحذق السياسي للرجل الكبير, وقتها لو قرر حافظ الأسد استفتاء البعث في المشاركة مع الأميركيين، لقررت له الغالبية، تحت سطوة الايديولوجيا، أن ينضم الى صدام لا الأميركيين، ولكنه لم يفعل.

كثيرا من الدراسات الموثقة تقول ان مدرسة حافظ الأسد السياسية، كانت حساسة لما يجري في الخارج، وموقف سورية منه كان في الغالب تفرضه الحكمة لا العاطفة كالموقف من الأردن، ومن حرب تحرير الكويت، وهذان مثال ودليل عملي على تلك الحسابات وذلك الحذق بعيد النظر، من بين مواقف أخرى كثيرة.

صحيح أن الموازين تغيرت دوليا بعد وصول الرئيس بشار الى الحكم في دمشق، فالكاتب الاميركي فلاينت ليفريت، الذي أصدر أخيرا كتابا بعنوان «اختبار بشار تحت النار» وترجم للعربية، يشير ولو من بعيد، الى أن استرخاء الحساسية للقضايا الخارجية الساخنة، وخصوصا الدولية، هو احد المعطيات التي ورثًت الأزمة المتفاقمة لدمشق اليوم, والكاتب يوثق هذا الأمر بالاشارة الى أحداث وقعت ما بين عام ألفين، وألفين وثلاثة، من بينها (الازدياد الهائل في التبادل التجاري بين بغداد ودمشق المحظور دوليا) ضد القرارات الصريحة لمجلس الأمن, وعدد كبير من الأمثلة التي تقود الى تأكيد ضعف الحساسية للمتغيرات الدولية, ربما يتذكر القارئ صاحب الأرشيف المعقول، أن رئيس وزراء سورية السابق السيد مصطفى ميرو في زيارة لصدام حسين تحت الحصار، أهداه من بين الكثير مما يمكن أن يهدى (سيفا مذهبا)! واضح أن الحساسية السياسية للمؤثرات الخارجية لسبب أو لآخر قللت من درجة الالتزام بها في ترمومتر دمشق السياسي في السنوات الأخيرة بصيرة مفقودة، شابها شيء من الفساد المالي الملحوظ والموثق أيضا.
وعند قراءة الصحف السورية اليوم (يمكن الاطلاع على بعضها من خلال الانترنت) يرى المتابع أنها تمعن في القراءة المغلوطة وتزيد على الضبابية السياسية ضبابا اعلاميا, فهي تشير الى حضور مندوبين على مستوى عال من كل من روسيا وتركيا المجاورة، على انه (تعضيد دولي) لموقف سورية، ولكن كلام المندوبين وتصريحاتهم المتاحة، تقول شيئا آخر، على الأقل يدعون دمشق للنظر بتؤدة ويحثوها للامتثال الى قواعد الشرعية الدولية لا أكثر,
الموقف من وجهة النظر السورية يبدو انه معتمدا حكما على أن ( اللجنة الدولية للتحقيق في اغتيال المرحوم الحريري) لها مقاصد أخرى اكبر بكثير من المعلن عنه حتى حينه، وبالتالي تذهب الاستراتيجية لتوظيف الفكرة القائلة: «ان سورية مستهدفة بسبب موقفها مما يحدث في كل من فلسطين والعراق», وهو أمر فيه من التسويق السياسي الذي يعرف طبيعة الجمهور المخاطب (وهو العربي في الأساس) وان هذا الجمهور سوف يقبل الفكرة ويتحمس لها, فليس هناك عربي عاقل الا ويتوسل موقفا حازما ضد ممارسات اسرائيل، كما أن هناك قطاعا لأبأس بحجمه من الرأي العام العربي يرى رؤية دمشق نفسه في العراق, أما التكتيك الذي تتبناه دمشق توسلا لانجاح الاستراتيجية فهي (لعب ساحة لبنان) الهشة، التي يتخوف عليها الغرب، ويعتبر نجاح الاستقرار فيها وتسيير آلية الديموقراطية بين طيفها السياسي، نجاحا للاستراتيجية التي يتوخاها ويعول عليها في الشرق الأوسط, خلخلة تلك الساحة اللبنانية من جانب حلفاء لدمشق في لبنان، قادرين وقابلين للفعل السلبي، يرى البعض في دمشق أن ذلك يعطل (الهجمة على سورية) ويعطي دمشق اليد العليا في مبادرة تحريك المشهد, تضيف هذه الرؤية الاستراتيجية، الى المشهد انشغال الغرب (اميركا وحلفائها) في العراق، وخوفهم من تكرار ما حصل هناك، يعطل أي خطوات يمكن أن تتخذ ضد سورية, بكلام آخر تستهدف تلك الاستراتيجية اظهار الممانعة السورية وكأنها ممانعة لمشروع اميركي سلبي وكبير في المنطقة، يضيع الممانعة الأخرى وهي تحديد أشخاص الفاعلين في الاغتيال الكبير للحريري، وترجئه الى موضع الدرجة الثانية أو حتى انتهاء الملف برمته.

الاستراتيجية كلها تتناقض مع ما كان «أبو الهول الدمشقي» على حد تعبير موسى ماعوز يفعل ويتصرف, انها اختلاف في الرؤية بين «سباق المسافات الطويلة» التي كان المرحوم حافظ الأسد يعتمدها، وسباق المسافات القصيرة المعتمد من دمشق اليوم.

في لبنان يفوت لبنان الرسمي كله، أو قل معظم الحجج، فهو يتحدث عن (تحرير الأرض اللبنانية كلها) بعد ترسيم الحدود بشكل رسمي وربما دولي, ويبدو أن الغرب مستعد وقابل وراغب، أن يقدم للبنان الكيلومترات كلها التي قال بها بشير الجميل، وأكدها اخيرا حسن نصر الله, يعني ذلك من جملة ما يعني، أن يتم توافقيا حرق ورقة (الخاصرة) اللبنانية, يبقى السؤال المنطقي، وهو اذا كان البعض في دمشق بريء من دم الحريري، وهذا ممكن عقلا، فان أفضل دليل على البراءة هو التعاون الكامل، ودون شبهة تعطيل للعجلة الدولية؟
الا أن هكذا قرارا يحتاج الى فهم كلي للمتغيرات الدولية التي كان الرئيس حافظ الأسد يستجيب لها بكل حذق, ينهي موسي ماعوز كتابه عن (أبو الهول الدمشقي) بالتساؤل، هل يحتفظ خلفاؤه بصيرورة بناء الدولة واكمال مسيرته؟ أم أن خلفاءه، والذين أسماهم الكتاب وقتها كونهم (رفعت الأسد، علي دوبا، علي أصلان، علي حيدر ليسوا بقدرة قيمة حافظ الأسد؟ المؤلف وقتها لم يذكر أبناؤه، فقد كان ذلك في علم الغيب! الا أن السؤال ما زال قائما.