أثار "إعلان دمشق" حواراً واسعاً في الأوساط السياسية السورية، ولم يتجاهله سوى أطراف النظام الرافض للحوار حول قضايا الوطن والمستمر في احتكار السياسة وإملائها على الجميع، والتضييق على من يخرج عنها بالوسائل القمعية, فإذا أصبح تحريم السياسة كلياً أمراً متعذراً بعد التغييرات العالمية والتطور المذهل لوسائل الإعلام، فيمكن ترك مهمة الرد لجهات غير محسوبة عليه رسمياً ولكنها تفكر بنفس الطريقة الشمولية.

كما أثار "الإعلان" زوبعة من التأييد والرفض والتعليق والانتقاد...، فمستقبل البلد يهم الجميع، حتى أن بعض رافضي "الإعلان" بدأوا تحركاً لتشكيل ائتلافات حول وثائق أخرى متباينة، وهي ظاهرة صحية طالما تنطلق من تأكيد آرائها دون توجيه اتهامات وتخوين للأطراف الأخرى المخالفة، وهي جهود تصب في إطار تحريك المياه الراكدة للسياسة السورية التي لم يعد النظام قادراً على إبقائها داخل "القمقم" كما فعل لعقود طويلة.

نرى فائدة هنا من مناقشة عقلية قديمة تعتقد أنها معارضة تصدت للإعلان بآراء تصب في صالح إدامة الاستبداد. ففي رسائل وجهها سوريون مقيمون في أميركا أعضاء في المؤتمر القومي العربي الذي يرأسه معن بشور إلى نظرائهم في سوريا، شنوا فيها حملة على "الإعلان الفتنة!!"، تتهمه بسلخ سوريا من انتمائها العربي, وهي مبالغة في الهواجس حول الهوية العربية، إذ أن شعار "سوريا أولاً" المخيف بنظرهم, يعني أن هناك ثانياً هو العروبة، وانتماءات أخرى للأسرة والمنطقة والإنسانية والطائفة...لا يلغي أحدها الآخر, ولا يضير حالياً أن تكون سوريا أولاً، فالوحدة العربية بعيدة رغم ترداد أعضاء المؤتمر القومي لشعاراتها.

وتتجنى الرسائل على "الإعلان" لاعترافه بالمسألة الكردية واقتراحه حلاً ديمقراطياً لها، بادعاء تمزيقه سوريا إلى مجتمع موزاييكي وتحويلها إلى "كيس أقليات", وهي تعابير شوفينية لرفض الاعتراف بوجود الأقليات ورفض الائتلاف مع الأحزاب الكردية الموقعة على الإعلان, الساعية برأيهم لسلخ الشمال الشرقي السوري والالتحاق بالشمال العراقي!! وهي التهمة التي توجه عادة لأي كردي يقدم لمحاكم أمن الدولة، عندما يطالب بحقوقه القومية ضمن وحدة البلاد التي يصر عليها الجميع في إطار حقهم بتقرير مصيرهم.

التخوين لا يقتصر على الكرد في سوريا والعراق فالرسائل توزع تهم الخيانة على جميع القوى السياسية العراقية من قوى شيعية وحزب شيوعي وجماعة إخوان مسلمين...، أي تخوين 80 % من الشعب العراقي الذي أتى بهذه القوى السياسية للحكم بعملية انتخابية ديمقراطية لم ينجح الإرهاب في منعها. ولا توفر الرسائل لبنان الذي أصبح برأيهم تحت الانتداب، وهو نفس خطاب أهل النظام حول رضوخ حكومته المنتخبة لأوامر السفارات الأجنبية.

ولم تسلم بعض أطراف المعارضة السورية من الاتهامات, فالرسائل تتحدث عن "زمرة لولبية" وراء "الإعلان" تبث سموماً في مقالاتها "الجنائية" بالصحف اللبنانية!!, مما يبين نوعية الديمقراطية التي يدعوا إليها أصحاب الرسائل في مؤتمراتهم القومية, التي تعتبر مقالات رأي عملاً جنائياً يستوجب العقوبة، وهي "ديمقراطية" على يمين أهل النظام الذين باتوا أميل لعدم التعرض لأصحاب الرأي. علماً أن أحد أعضاء المؤتمر القومي أضاف لهذه التهم أن معارضة "ربيع دمشق" احتوت عدداً وافراً من "كارهي العروبة والإسلام" ممن يسوقون أنفسهم لواشنطن وباريس...

وتتحدث الرسائل عن بعض الشرفاء وراء "إعلان دمشق" جرفتهم مرارة الاستبداد لاستبداله بما هو أسوأ منه، "أي التواطؤ مع عدو البلاد"؟! فالرسائل ترى أن أركان المعارضة يريدون استغلال أزمة النظام مع المجتمع الدولي للتخلص منه، وهي تهمة "تطهرية" تفضل انتظار نصف قرن آخر من الاستبداد, على الاستفادة من الظروف الدولية لنقل سوريا من النظام الأمني إلى النظام الديمقراطي، فالبديل طرف ثالث يسعى لبلورته "إعلان دمشق"، لا يضطر للتماهي مع النظام أو للتحالف مع القوى الخارجية.

الانتظار هو جوهر السياسة القديمة للنظام الذي يدعي الرغبة في الإصلاح, لكنه يختلق ذرائع الأخطار الخارجية "المحدقة إحداقاً لا نهاية له!!", لتأجيل الديمقراطية كما يفعل أعضاء المؤتمر القومي في أميركا، فمرارة الاستبداد بالنسبة لهم مسألة لا يستشعرونها إلا عن بعد طالما يعيشون في بلاد ديمقراطية، لكن ذلك لا يمنعهم من مطالبة النظام بالمسارعة لإجراء إصلاحات، مما يذكر بمعارضة عراقية مدجنة – بعض أطرافها من أعضاء المؤتمر القومي- قامت في الأيام الأخيرة من حكم صدام حسين بمطالبته بالإصلاحات, فالحفاظ على الدور القومي المزعوم للنظام العراقي السابق هو نفس ما تطالب به الرسائل بالنسبة للدور القومي للنظام الشقيق.

السياسة القديمة المقترحة للرسائل تتناقض مع "إعلان دمشق" الذي يقطع مع النظام, بعد اليأس من مطالبته منذ سنوات، دون إغلاق الباب أمام من يريد من أهل النظام للالتحاق بالعمل للتغيير الديمقراطي، فرياض الترك في مبادرته المكملة للإعلان اقترح حلاً يفسح المجال لمشاركة أهل النظام في مرحلة انتقالية تقود إلى انتخابات حرة وصياغة دستور جديد ديمقراطي.

المؤتمر البعثي وخطاب النظام الأخير أجاب سلفاً على رسائل أعضاء المؤتمر القومي...التجاهل التام المترافق مع تهديدات، و"الوعد" فقط بحل مشكلة الإحصاء الاستثنائي للكرد, دون تحديد موعد محدد أو عدد من سترد لهم جنسياتهم، و"وعد" آخر بقانون أحزاب "يحتاج لوقت طويل ليصدر", معلوم سلفاً أنه لن يكون أفضل من قانون مطبوعات صدر مؤخراً لزيادة القيود على حرية النشر.

كما تعيب الرسائل على "الإعلان" أنه لم يذكر العراق وفلسطين وأية قضايا عربية، فأعضاء المؤتمر القومي لم يفهموا بعد أن أي بلد في المنطقة لم يعد يقبل التدخل بشؤونه بحجة العروبة، فأهل النظام حولوا العروبة إلى أوراق إقليمية يمكن المساومة عليها عند الضرورة، وآخرين حولوها إلى ذريعة لتوسيع إمبراطورياتهم الاستبدادية كما في حروب صدام الكارثية، والبعض يستخدم العروبة الآن للتدخل في شؤون العراق ودعم المنظمات الإرهابية تحت شعارات "نصرة العراق العربي".

كما ينسى أصحاب الرسائل أن الفلسطينيين يمارسون القرار المستقل ولا يتدخلون في شؤون احد ولا يسمحون لأحد بالتدخل في شؤونهم، وإن أفضل موقف عروبي هو الدعم لما يريده كل شعب لنفسه وعدم المزاودة عليه كما يفضل عروبيو المؤتمر القومي، الذي جاء في رسالتهم الأخيرة من واشنطن -18/11- أن النظام يستحق الوقوف إلى جانبه فيما يتعرض له لأنه يتمتع بدرجة من الوطنية ولمساندته "المقاومات الثلاث", رغم نفي أهل النظام لأي دور لهم في دعم "الثلاثي المقاوم".

إن العادة القديمة بتوشيح كل بيان بشيء ما عن القضايا القومية فقدت فعاليتها, لذلك ابتعد عنها "الإعلان" المتوجه لمهمة واحدة مفصلية تحتاج كل الجهود: " تحويل سوريا من النظام الأمني للنظام الديمقراطي"، عندما تتحقق, تقوي سوريا فتصبح قادرة على دعم القضايا العادلة لدول الجوار.

في الردود على رسائل أعضاء المؤتمر في أميركا طالبهم الأستاذ ميشيل كيلو بتوجيه رسائلهم لأهل النظام لحثهم على وقف استئثارهم بالسلطة والقرار، وكان رد الأمانة العامة للمؤتمر القومي الاجتماع بأهل النظام لتأييدهم، وهو ما وضحه أحد أعضاء المؤتمر بأن المطلوب هو التواصل الناقد معهم لتصليب عودهم!! مع تشبيه التوحد مع النظام الاستبدادي بتوحد الديكتاتور ستالين مع أمته في الحرب العالمية رغم الفوارق الشاسعة, التي تم تجاوزها بتضخيم "أهوال التسونامي" التي تنتظر سوريا.

كما رد أعضاء المؤتمر ممن ينتمون للاتحاد الاشتراكي في سوريا، فأكدوا على أن مواجهة المخاطر الخارجية وتحقيق الوحدة... لا يتم إلا بالإرادة الشعبية الحرة، أي أن الديمقراطية هي المدخل لتحقيق الأهداف، وأكدوا خيبة أملهم من النظام الذي سد آفاق التغيير، وأن "الإعلان" جاء لمواجهة محاولة اختراق الجبهة الداخلية، وفضلوا رفض الاستفادة من الضغوط الخارجية التي تتقاطع مع العمل الديمقراطي، وهو موقف لا يتطابق مع ما جاء في "الإعلان" من: "الإدراك لحقيقة وموضوعية الارتباط بين الداخلي والخارجي ...". ودعوا لاستنهاض حركة مقاومة عربية شاملة, ورغم عدم تعرض "الإعلان" لهذه المسألة, فمن حقهم تحديد موقف مختلف إذ أن "الإعلان" ائتلاف حول مهمة محددة لا يلغي مواقف أحزابه من قضايا أخرى, ولا يقصي أي ديمقراطي مهما كان رأيه بالمسائل الأخرى.

هذا الفهم لا يتوافق مع مقال لرجاء الناصر القيادي في الاتحاد الاشتراكي، الذي رأى أن على "الإعلان" أن يتحول إلى قوة عملاقة: يواجه الهجمة الأميركية والصهيونية المستهدفة للأمة العربية كلها!؟ مع تضمينه العمل للوحدة العربية والتوجه للطبقات الفقيرة ورفض تلقي التأييد من جهات ديمقراطية لا تقبل برنامج الحد الأقصى هذا، وهو موقف يتفارق مع ما يراد من "الإعلان" لعدم إقصاء أحد.

لا نتوقع أن هذه الاختلافات ستدفع الاتحاد الاشتراكي للانسحاب من "الإعلان"، فقياداته تدرك أنه ائتلاف الحد الأدنى للمعارضة لإنجاز المهمة الأساسية التي تضع سوريا على طريق الانتقال للديمقراطية, ليختار الشعب بعدها عن طريق صناديق الاقتراع برامج الأحزاب التي يحبذها.

ولكي لا يقود الفرز الذي يجري حالياً على الساحة السورية إلى اصطفاف مبني على أفكار قديمة فيؤدي لصراع مع طواحين الهواء, لا بد من الحوار والمزيد من الحوار قبل القفز المتسرع لنتائج تضيع الجهود الائتلافية المبذولة للوصول للهدف المأمول: الانتقال الديمقراطي.