محمد سيد رصاص /المستقبل

جاء القرار الإيراني الأخير باستئناف تخصيب اليورانيوم ليضيف بؤرة رابعة الى بؤر التوتر الثلاث في الشرق الأوسط، والتي أشعلت المنطقة في السنوات الخمس الماضية: فلسطين (مع اشتعال الانتفاضة في 28 أيلول 2000 إثر فشل مفاوضات الحل النهائي في مؤتمر كامب دافيد)، العراق مع سقوط بغداد (9 نيسان 2003)، لبنان (مع صدور القرار 1559 في أيلول 2004 الذي حول لبنان الى ساحة تجاذب دولي ـ اقليمي).

اللافت للنظر أن اشتعال البؤرة الرابعة قد أتى بمبادرة من العامل الإقليمي بعد فشل الخاتمية وما أعقب ذلك من انتصار المحافظين الإيرانيين مع انتخاب محمود أحمدي نجاد، ولم يأت من (القطب الواحد).

في مرحلة ما بعد انتهاء الحرب الباردة، لم تحصل مبادرات لإشعال بؤر اقليمية من أطراف محلية بالمنطقة، سوى من الرئيس العراقي مع غزو الكويت: يبدو أن محافظي طهران في مبادرتهم هذه ينطلقون من صعوبات القطب الواحد في بغداد ما جعلهم يأخذون وضعية هجومية تجاه الولايات المتحدة "جارتهم الإقليمية" في الشرق والغرب إذا لم يكن أيضاً في الشمال مع النفوذ الأميركي في أذربيجان وتركمانستان.

كانت طهران من أكبر المستفيدين الإقليميين من الأوضاع العراقية التي أعقبت سقوط صدام حسين، عبر طفو قوى عراقية موالية لإيران الى سطح السياسة العراقية عبر الانتخابات الأخيرة، فيما تتحكم قوى موالية لإيران وأحياناً أجهزة إيرانية، بأوضاع الجنوب العراقي، حيث يبدو أن دور الشيعة في "الرقصة العراقية" قد حان عام 2003 كأحد عقابيل (11 أيلول) (وهو ما فشل الخميني في تحقيقه عبر حرب 1980 ـ 1988)، بينما تتحمل واشنطن التي ينطبق ايرانياً عليها قول ماركس عن قيام بسمارك بتحقيق الوحدة الألمانية: "إنه يقوم بجزء من عملنا"، فاتورة انفجار التناقضات العراقية.
منذ سقوط بغداد، لم تتنفس الأنظمة الاقليمية الصعداء الا في صيف 2005، بعد أن عانت من قلق شديد نتيجة لبرنامج واشنطن "التغيير" (مشروع الشرق الأوسط الكبير) واتجاهها الى إعادة النظر في الأدوار الإقليمية للأنظمة إثر تحول الولايات المتحدة الى "حاضر اقليمي" يلاحظ ذلك في القاهرة مثلاً، فيما أدركت واشنطن أن "الأردوغانية" متعثرة عربياً، وأن من الصعب على الليبراليين العرب أن يأخذوا وضعية يلتسين عبر صندوق الاقتراع، وهو ما أوصل واشنطن الى الاقتناع بأفضلية الحكام العرب على البدائل الموزعة بين "الأصولية" و"السلفية الجهادية".

عبر هذين العاملين المذكورين (أوضاع عراقية ملائمة ايرانياً وبيئة اقليمية تتعثر فيها واشنطن، فيما تلاقي طهران فيها حلفاء من دول ومنظمات، بينما في الظروف القائمة لن يبادر أحد الى التحالف مع الأميركيين ضدها، كما حصل مع صدام) تتحرك طهران في هجومية لافتة، يبدو أنها تستند الى بيئة مجتمعية متماسكة (كما أظهرت الانتخابات الأخيرة حيال أجندات المحافظين الايرانيين)، والى التقليد الاجتماعي الفارسي بالتوحد أمام (الآخر)، وهو ما هو مفتقد عند العرب.

يلفت النظر عدم استيقاظ ا لروحية الهجومية الأميركية التي تم لمسها في 1990 (الكويت) و2001 (كابول) و2003 (بغداد)، أمام تلك المبادرة الايرانية، فيما يحصل انقسام اميركي ـ أوروبي حيال طهران بالترافق مع سلبية راضية في موسكو وبكين: سيتقرر مصير البؤرة الرابعة عبر الثانية (العراق) وليس عبر الداخل الايراني، فيما يلاحظ أن فتيل الأولى (فلسطين) سيخف كثيراً مع الانسحاب من غزة وما دام لا يوجد قوة لحماس والجهاد في الضفة توازي قوتهما في القطاع، فيما يمكن أن تستغل ايران كثير الإصرار الأميركي (الذي بان أثناء زيارة رايس الأخيرة لبيروت) على تنفيذ الشق الثاني من القرار 1559 لتفجير الكثير من الألغام في وجه الأميركيين عبر (حزب الله).

سيتحول العراق، بين البؤر الأربع، الى ساحة التجاذب الرئيسية في المنطقة خلال المدى المنظور (بما سيعنيه هذا من صورة عراقية جديدة عندما سيؤدي صراع ايران المكشوف مع واشنطن الى انفراز قوى شيعية ضد الأميركيين، عبر قوى قائمة (التيار الصدري) وعبر انشقاق تنظيمات تتوزع ولاءاتها الراهنة بين واشنطن وطهران (المجلس الأعلى وحزب الدعوة)، وربما يتم عبر العراق تكرار تجربة لبنان 1982 ـ 1983 عندما هزم (الإقليمي) الذي لن يكون ممثلاً بإيران وحدها في هذه الحالة، بالتحالف مع (المحلي)، (الدولي)، وأجبره على الانكفاء ليسلم الأخير بدور (الاقليمي)، ثم ليتجه الى عقد الصفقات معه، بعد فترة من السنوات ترك فيها الصراع الإقليمي ـ الإقليمي، وأيضاً (المحلي)، يأخذان مداهما الكامل في (وعلى) لبنان.

هل سيؤدي هذا الى هزيمة أميركا في العراق؟، أو أنه سيؤدي بعد أن تيقنت واشنطن إثر عملية عض الأصابع التي جرت في أرض الرافدين أنها لا يمكن أن تنفرد بالعراق بمعزل عن العراقيين ودول المنطقة والدول الكبرى ـ الى صفقات بين طهران (وربما بعض الأنظمة الاقليمية) وواشنطن؟، أم أن أميركا لمنع هذين الاحتمالين (حيث يعني الثاني نصف هزيمة للأميركيين)، ستلجأ الى خيارات شمشونية (ربما بالتعاون مع اسرائيل، عبر تكرار سيناريو ضرب المفاعل النووي العراقي في 1981، أو عندما أعطت الضوء الأخضر لاسرائيل بضرب العرب ومعهم السوفيات عام 1967 في ظرف انغراز أرجلها في وحول فيتنام) لمنع هزيمتها في العراق، انطلاقاً من ادراكها أن هذا لا يعني فقط فقدان هيمنتها وسيطرتها الراهنة على الشرق الأوسط، وإنما بداية لتداعي نظام (القطب الواحد)؟.