ميشيل كيلو/الخليج

طرح كثيرون على أنفسهم هذا السؤال، بعد خطاب بشار الأسد، الذي اعتبر الحريري ابناً باراً لنظام الوصاية السوري في لبنان، في إيماءة تفيد أنه لا مصلحة لسوريا في قتله، وأن من غير المعقول أن يقتل نظامها أبناءه.

لا جدال في أن الحريري كان يرتبط بعلاقة اتسمت بقدر كبير من الخصوصية مع سوريا، وأنه ما كان ليصير رئيسا لوزراء لبنان، ورجل السياسة الأول فيه، لو عارضت سوريا صعوده من “رجل أعمال” لا خبرة له في عالم السياسة إلى رجل دولة صار أحد كبار رموز التهدئة والسلم الأهلي والبناء في بلده، ذلك بأن الرجل لم يكن معروفا قبل الحرب الأهلية وخلالها لغير الخاصة من مواطنيه، ولم تكن مواهبه وقدراته السياسية معروفة لغير نفر من أرباب الأمر والنهي، الذين ما أن انخرطوا في الحرب حتى وجدوه في كواليسها، يعمل بما لديه من وسائل مال، اتصالات، نفوذ... الخ على وقفها وإخراج لبنان منها. وقد اعترف السوريون قبل غيرهم بدوره المهم في مؤتمر جنيف ثم في اتفاق الطائف، الذي وضع حدا للحرب الأهلية وجاء به رئيسا لوزراء لبنان، بموافقة دمشق، التي تولى جيشها الإشراف على الدولة الشقيقة، وكانت على ثقة من أنها ستتمكن من احتواء رجل الأعمال الثري، الذي اعتقدت أنه سيطور خبراته السياسية تحت إشرافها، لا سيما وأنه يأتي من صفوف حركة القوميين العرب وكان يقود سيارة زعيمها الدكتور جورج حبش لفترة من الزمن.

لكن تعريف الحريري بعلاقته مع سوريا وحدها يبقي شخصيته ودوره ناقصين وغامضين، ذلك بأنه لم يأت من فراغ، كما لم يكن قليل الاستعداد للدور الذي قام به، بحكم صلاته المفعمة بالأسرار والألغاز مع المملكة العربية السعودية، التي قصدها شابا ليعمل مدرسا فيها، ثم جمع ثروة طائلة من نشاطه كمتعهد مكنته من الانتساب إلى صفوف أثرياء المنطقة الكبار، وأتاحت له التعرف الى أجواء وكواليس السياسة العربية والدولية، وعقد صداقات وثيقة مع عدد من زعمائها، لعبت دورا مهما في توطيد مكانته اللبنانية، وجعل سوريا بحاجة إلى خدماته السرية والعلنية، وكذلك إلى أمواله التي أسهمت في بناء بعض مشاريعها الرسمية داخل دمشق وحولها.

يؤكد هذا كله أن الحريري لم يكن خيارا سوريا فقط، ويبرز ما اتسمت به علاقاته مع نظام دمشق من التباس نشأ عن تضارب المصالح الإقليمية في لبنان، وتعارض تطلعاته ومشاريعه مع تطلعاتها وخططها هناك، وعن خضوع الأطراف المعنية جميعها لمعادلات على قدر كبير من الحساسية، جعلت النظام السوري يركز على منع ظهور قوة لبنانية تملك قدرات ذاتية،وعلاقات عربية ودولية،وشرعية شعبية من شأنها مساعدتها على إعادة بناء بلدها وإنجاز مصالحة داخلية تضمن هدوءه واستقراره، ومساعدة الحريري على إضعاف الوجود السوري فيه، الذي ارتكز على بقاء علاقات أطرافه في حال من الالتباس والغموض والتناقض يحول دون توحيدها، وأغرقها في أوضاع لا حرب ولا سلم، وبرر دوره اللبناني بالحفاظ على السلم الأهلي ومنع تجدد الحرب الأهلية، وحماية لبنان وإعادة بناء جيشه واقتصاده، ورده إلى موقعه الصحيح من العروبة.

لم يكن الحريري قادرا على إضعاف هذا الدور وتحديه بصورة مباشرة، لذلك ركز جهده على إعادة بناء وتحديث بلده، الذي تحول بالفعل إلى ورشة عمل أنفق عليها وأخذ منها الكثير، حولته إلى دولة هي الأكثر تقدما في الشرق العربي، وأعادت إليه دوره الخدمي والمصرفي ومكانته الاقتصادية، وأرسته على أسس حديثة جعلته جهة يمكنها ممارسة تأثير حقيقي في أوضاع سوريا، الغارقة في الركود والمركزية. بذلك، ظهرت معادلة جديدة في لبنان وبينه وبين النظام السوري، وقف الحريري وراء ما تضمنته من عناصر ومكونات جديدة في جميع قطاعات الحياة السياسية والثقافية والاقتصادية / الاجتماعية، وما أرسته من أرضية يمكن أن تحمل استقلال بلد ربطته دمشق بمعاهدة أخوة وتعاون، لكن علاقاتها معه بقيت أمنية، فلم يكن لها أي تأثير يذكر في اقتصاده ومجتمعه وحياة مواطنيه اليومية.

عندما لاحظت القيادة السورية ما يجري وأدركت خطورته، كان لبنان يخرج من بعض المناخات، التي فرضتها عليه، وكانت إمكانية إخراجه من مأزقه تغدو أكثر ملموسية، وكان واضحا أن الحريري لعب أوراقه بمهارة، دون أن يستفز سوريا أو يدخل في مواجهة معها، رغم أنه غدا لاعبا مهما جدا في بلده، وأخذ رؤوس جسور حتى داخل نظامها. من هنا، فإن قبول دمشق بوصول هذه اللعبة إلى نهاية شوطها كان يعني تقويض دورها في لبنان، خاصة بعد أن نجح الحريري في تحييد الرئيس الهراوي، الذي اختارته دمشق كي يعينها على السياسي المارق، المتناقص الانضباط بخطوطها الحمر والخبير في استغلال نقاط ضعفها.

مثل اختيار الجنرال لحود لرئاسة الجمهورية علامة فارقة في علاقات النظام السوري مع الحريري ولبنان، فقد سارع الجنرال إلى تكليف شخص آخر بالوزارة هو سليم الحص، رجل الاستقامة والنزاهة، الذي كلف بتصفية مواقع الحريري في الحكومة والدولة، لكنه فشل فترك مكانه لخصمه، الذي بدا وكأنه قدر لبنان والناطق باسمه والمعبر عن رغباته، الذي ليس بوسع أحد تحديه أو كسر شوكته.

بعودة الحريري إلى الوزارة، أخذ توزيع جديد للقوى يتكون في لبنان، حده الأول لحود وسوريا، وحده الثاني هو نفسه وقد ازدادت مكانته توطدا وتحول إلى ند لدمشق غدا من المحال التخلص منه.

مرت علاقات سوريا مع الحريري في أطوار مختلفة، كان في بدايتها أكثر ارتباطا بدمشق منه في نهايتها، قبل مقتله الفاجع، الذي هز لبنان والوطن العربي والعالم، وأكد أن من أسماه بشار الأسد “ابن نظام الوصاية السورية البار” نجح في وضع نفسه فوق حسابات وعلاقات كثيرة، بما في ذلك حسابات وعلاقات نظام الأسد، الذي عاش معه الصيف والشتاء على سطح واحد، وكان صديقه وشريكه المقرب في أمور معينة، وحالة يصعب ضبطها والإمساك بها في أمور كثيرة أخرى، تبين، بعد مقتله الفاجع، ما بلغه حجمه الدولي والإقليمي والمحلي، وظهر أنه لم يكن فقط ابنا بارا لنظام الوصاية السوري، بل كان عدوه اللدود أيضا!

لم يكن الحريري رجلا عاديا بأي مقياس، فكان من الصعب احتواؤه وتدجينه. وزاد الطين بلة في علاقات دمشق معه أن نجمه أخذ منحى صاعدا طيلة عقد ونيف، بينما كان نجم النظام السوري يسقط من سماء العلاقات الدولية والضرورات الإقليمية إلى الأزمة الراهنة التي لا يعرف إن كان سيخرج سالماً منها.