ياسين الحاج صالح/الحياة

يخطئ متكلمون سوريون حين يقولون إن هناك «مخططا» أميركيا «يستهدف» سورية، وأن التحقيق في اغتيال رفيق الحريري ليس إلا فرصة سانحة لاستكمال هذا المخطط، أقل مما حين يبنون على ذلك أنه لا يجدي النظام أن يتعاون أو لا يتعاون مع التحقيق الدولي في اغتيال الحريري ويلتزم بالقرار الدولي 1636. والنتيجة أن المقاومة والصمود هما الحل. النصف الأول من الجملة يحتاج إلى إصلاح، أما النصف الثاني فإصلاحه هو التخلي عنه.

السياقات التي ترد فيها كلمتا «مخطط» و»استهداف» في التداول السوري تحيل إلى نظرية المؤامرة، إلى خطط خفية لقوة شريرة منشغلة بالكيد لنا، نحن العرب أو المسلمين أو السوريين. مهم في سورية تحديدا أن يقال إن التآمر فاعلية بشرية وسياسية عادية يقدم عليها جميع الفاعلين السياسيين العاديين، دولا أم كتلا دولية أم أحزابا أم تحالفات أم أفرادا (كان لينين يعرّف حزبه بأنه عصبة من المتآمرين الثوريين). سورية بالطبع ليست استثناء من ذلك. مهم أن يقال إن نظرية المؤامرة ليست هي النظرية التي تدرس أفعال التآمر بين الدول والأمم...، بل هي التي تقول إن التاريخ عبارة عن مؤامرة أو مؤامرات، وأن العالم يبيت لنا الشر لأن الشر من طبعه ولمجرد أننا أطهار. مهم أن يقال إن نظرية المؤامرة تلبي حاجة أنظمة حكم استبدادية لاستنفار شعوبها وقمع الاعتراض السياسي فيها، وأنها تنبثق من بنى السلطة في هذه الدول أكثر مما تقول شيئا عن العالم خارج الدول هذه. مهم أن يقال ايضا إن ما تخفق فيه نظرية المؤامرة قبل كل شيء هو بلورة سياسة فعالة لمواجهة المؤامرات التي تقوم بها الإدارة الأميركية أو غيرها، وإخفاقها محتوم لأنها تقدم فكرة فاسدة وغير صحيحة عن العالم.

ليس ثمة «مخطط» خفي ولا «استهداف» خبيث، هناك قوى دولية لها استراتيجيات وأهداف تسعى إلى تحقيقها بطرق متعددة بينها التآمر (وبينها الحرب، وبينها ضغوط وعقوبات متنوعة، وبينها محاولــــة كسب القلوب والعقول بالدعاية الديموقراطية). لقد التقـــت نهاية الحرب الباردة بفوز الأميركيين وخســـارة سورية ودول عربية أخرى حليفهـــا أو سندهـــا السوفياتي، مع تعرض الولايات المتحدة لهجوم على أيدي مواطنين عرب، مع وجود إدارة أميركية محافظة في البيت الأبيض، ومع طور جديد من أطوار الرأسمالية (العولمة...)، ومع حقيقة كون البلاد العربية أقطابا سلبية أو ضعيفة إلى درجة تغري بالاحتلال أو الهيمنة، وسيئة السمعة إلى درجة تشرع الاحتلال والهيمنة، التقت هذه جميعا لدفع الولايات المتحدة نحو سياسات عدوانية تهدف إلى الهيمنة على المنطقة العربية والشرق أوسطية التي «تعتدي» على الأميركيين. إلى ذلك فإن السيطرة على المنطقة تمكّن الأميركيين من التحكم بسياسة الطاقة العالمية وبهامش استقلالية الدول المتقدمة الأخرى الطالبة للطاقة، فضلا عن دعم إسرائيل، الحليف الموثوق والحبيب المعشوق.

على أن القسم النظري من المذهب السياسي السوري الراهن، القسم الذي يتحدث عن المخطط والاستهداف، كوم، والقسم الثاني، العملي، الذي يتحدث عن لا جدوى فعل أي شيء، كوم آخر. وهذا الكوم الأخير قدري، غير سياسي، غير عقلاني، لا يتخيل بديلا عن الاستسلام غير الانتحار. ومصدر هذه الأحروجة أن النظام حين اجتث السياسة من البلد نسي أن يترك لنفسه شيئا منها، أي أنه دفع ثمن طرد السياسة تنكر السياسة له.

هناك الكثير مما تفعله سورية غير الاستسلام للإرادة الأميركية وغير رفض التعاون مع القرار الدولي (هذا ليس ذاك بالطبع، إلا على أرضية نظرية المؤامرة إياها). هذا الكثير يتمثل في تغيير داخلي حقيقي موجه نحو مساعدة البلاد على مواجهة أعباء مرحلة عسيرة بأقل قدر من الخسائر. وإذا وضعنا في بالنا أن الخسائر قد تمس استقلال البلاد ووحدة الشعب السوري وسلامة الدولة السورية فإن إلحاحية تغيير الهياكل والعلاقات السياسية التي أفضت على هذا المأزق أو شاركت تغدو أبرز وأشد.

هناك فارق كبير بين بلد يدخل طورا جديدا من تاريخه وهو يتمتع بدرجة اكبر من الوفاق الداخلي والقوى المنظمة العقلانية والوحدة الوطنية المدنية، وبين من يدخلها دخولا انتحاريا على طريقة صدام حسين في العراق المنكود. الفارق كبير بين تكيف إيجابي وفعال مع شروط إقليمية ودولية قاهرة وبين أن تفرض هذه الشروط على البلاد غصبا وبصيغ عقابية وقاسية. التغيير الداخلي باتجاه نظام أكثر عدالة وإنصافا وقانونية وتفاهما وطنيا يساعد سورية على تحمل مرحلة صعبة قادمة بلا ريب. بالطبع، لا يعفي أي تغيير داخلي من تعاون كامل مع مهمة ميليس (إذا كان العائق الوحيد أمام التعاون السوري هو مكان الاستجواب فقد يكون من الحكمة القبول بقبرص أو القاهرة). لكن التغيير الداخلي يساعد على تغيير بيئة المواجهة الحالية، ويدفع الأطراف جميعا إلى إعادة حساباتها ومراجعة خططها. بالمقابل من شأن رفض التغيير الداخلي أن يعني دخول سورية طورا جديدا من تاريخها وتاريخ المنطقة وهي في موقع المعزول والمهزوم، وربما المحطم والمنقسم على ذاته. العراق قريب لمن يريد أن يعتبر.

لكن لماذا يستبعد خيار المقاومة، قد يتساءل البعض. وبدورنا قد نتساءل: هل هناك بالفعل استراتيجية مقاومة لدى النظام؟ في الماضي لم تكن لدى النظام استراتيجية مقاومة من أي نوع، واليوم ليس لديه استراتيجية مقاومة أيضا. استراتيجيته تمحورت دوما حول البقاء في السلطة، ومفهوم الصمود يوفر الالتباس المناسب بين بقاء النظام والثبات على الأهداف الوطنية. لقد بحث النظام دائما عن، وعثر غالبا على، حلول خارجية للمشكلات داخلية. «الدور الإقليمي السوري» الشهير كان اسما لهذه الحلول. ورغم المظاهر فإن سياسات النظام الخارجية لا تفسر إلا ببنيانه الداخلي، وبالتحديد رهانه على التأييد. وإذا كان اليوم في مأزق فلأنه لم يعد ثمة مجال لحلول خارجية، ولا يستطيع التحول نحو حلول داخلية للمشكلات الخارجية.

الكلام على المقاومة دون استراتيجية مقاومة متكاملة هو كلام إيديولوجي بأدق معنى للكلمة، أي كلام يقوم معناه في وظيفته: كبح الاعتراض الداخلي والحفاظ على نمط ممارسة السلطة في البلاد، أي باختصار تجديد شباب نظام الطوارئ وعقيدة «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة». معلوم أن ثمار النظام ذاك والعقيدة هذه كانت كارثية على المستويات العسكرية والمدنية و... الوجودية.

أول عناصر استراتيجية جدية للمقاومة أن يكون لدى السوريين جميعا اقتناع بأنهم يدافعون عن قضية عادلة، أي عن وطنهم، وليس عن نظام حكمهم وحده؛ ثانيها وحدة وطنية مدنية، أي تقوم على تفاهم الفاعلين السياسيين في البلاد، ولا ترتد إلى وحدة أهلية هي محض غياب التنازع الطائفي؛ ثالثها أن يلغى كل ما من شأنه أن يعوق مشاركة المواطنين المتساوين الأحرار في الدفاع عن وطنهم من قوانين استثنائية وهياكل سياسة امتيازية وممارسات سلطة تعسفية. استراتيجية المقاومة تتطلب أيضا إجابات واضحة ودقيقة عن أسئلة تخص آليات المقاومة: كيف (بالسلاح؟ مقاومة نظامية أم شعبية؟)، ومتى (اليوم، بعد 15/12؟)، وأين (في سورية؟ أم ربما في لبنان؟)، ومن يقاوم؟

واضح أن المقاومة تتطلب من التغيير، ومن السياسة، أكثر حتى مما يتطلبه التكيف الإيجابي. الفوضى وحدها هي التي لا تتطلب إلا إبقاء الحال على ما هي عليه، والانتحار وحده هو الذي لا يحتاج السياسة والخيال السياسي الحر. والفوضى للأسف احتمال حقيقي لأن النظام دأب طوال تاريخه على تحطيم أية قوى منظمة عقلانية ومعتدلة، وعلى تجويف مؤسسات الدولة وحرمانها من أي استقلال ذاتي عن إرادة أرباب السلطة، وعلى إمساك المجتمع السوري بالقوة ومنع السوريين من التلاقي والتواصل والتعارف الذاتي المستقل عن رقابة أجهزة السلطة. إن المجتمع الممسوك، خلافا للمجتمع المتماسك، مهدد حقا بالفوضى حين تضعف القبضة الممسكة بخناقه.
برنامج العمل الوطني في سورية بسيط جدا: الالتزام بالقرار 1636، والمباشرة بإعادة البناء الوطني على أسس ديموقراطية.