وحيد عبدالمجيد/الاتحاد

أكثر ما يفتقده النظام الإقليمي العربي منذ سنوات طويلة، هو الرؤية المستقبلية المتكاملة التي يمكن بناء استراتيجيات ووضع تكتيكات في إطارها• لا يمتلك هذا النظام، ودوله الأعضاء كلها، أكثر من مواقف عامة، وأحياناً مغرقة في العمومية على نحو لا يميزها عن الأمنيات من ناحية والشعارات من ناحية أخرى•

ولذلك فكلما كانت القضية التي يفترض تحديد موقف بشأنها محددة بدقة، غابت الرؤية وبدا الموقف العام تجاهها غامضاً يعوزه الوضوح• وينطبق ذلك على ما يعتبر قضايا كبرى للأمة تعيش معنا منذ عقود، كما على قضايا ومشكلات جديدة علينا•

ولذلك فإذا سألنا مثلاً عن الرؤية العربية لقضية فلسطين الآن، باعتبارها القضية الأكبر على الإطلاق بين ما نعتبره قضايا كبرى، وجدنا مواقف تحاول المزج بين ما بقي مما كان يعتبر ثوابت عربية تجاهها وما يستجد في ظل ضرورات عملية هي محصلة إخفاق كبير في إدارة الصراع الأكثر تأثيراً على العالم العربي والشرق الأوسط عموماً منذ انفجاره إقليمياً في عام •1948 لدينا ما يجوز اعتباره تجاوزاً ’’رؤية’’ عامة في المبادرة العربية للسلام التي أقرتها قمة بيروت في مارس ،2002 ولا تقدم هذه الرؤية أكثر من تصور شديد العمومية يعيد الربط بين انسحاب إسرائيل من الأراضي العربية المحتلة وإقامة علاقات سلام معها• فهذه المبادرة لا تقدم رؤية بالمعنى الكامل، فضلاً عن أنها تخلو من أي استراتيجية للحركة• فهي لم تكن أكثر من إعلان موقف مستقبلي يقول إذا حدث كذا سيكون موقفنا كذا• وما ينقص هذه ’’الرؤية’’، لكي تكون رؤية حقاً، هو بناء استراتيجية للعمل العربي المشترك وفقاً لها والتوافق على خطط لمباشرة هذا العمل ومتابعته وتقويمه دورياً لتطوير تلك الخطط، وهكذا• فالرؤية السياسية المستقبلية ليست مجرد إعلان عام يصدر للعودة إليه عند الحاجة، وإنما هي الإطار الذي يساعد وجوده على تحديد الاتجاه استراتيجياً وتكتيكياً• ولا يختلف الأمر بالنسبة إلى الأزمات الجديدة التي تواجه النظام العربي، مثل الأزمة السورية الراهنة المرشحة للتصاعد خلال الشهور القليلة المقبلة، بل يبدو الوضع أسوأ بالنسبة إلى مثل هذه الأزمات التي يستحيل التعاطي معها عبر زمن مديد بخلاف حال قضية فلسطين• فهذه قضية طويلة الأمد بطابعها وباعتبارها محوراً لصراع يصنفه علماء الاجتماع ضمن الصراعات الاجتماعية الممتدة• وهذا النوع من الصراعات طويل وشديد التعقيد لأنه بين مجتمعين وجماعتين اجتماعيتين بينهما تناقضات جوهرية، بخلاف الصراعات بين الدول على حدود أو على مصالح يمكن تسويتها عبر حلول وسط بسيطة•

ولذلك أمكن للنظام العربي الرسمي أن يتعاطى مع قضية فلسطين الممتدة زمنياً بطريقته البطيئة التي لا حساب فيها للزمن، وباختلالاته الكثيرة التي لا حدود بسببها للأخطاء• غير أن أداء النظام العربي البطيء الذي يعاني اختلالات شتى هو أحد أسباب الوضع الذي آلت إليه هذه القضية الآن، حيث يسعى العرب عبثاً إلى حل يقدم للشعب الفلسطيني دولة ناقصة السيادة ولكنها قابلة للاستمرار على أقل من ربع أرضه التاريخية•

وهكذا كان الزمن في قضية فلسطين مديداً مغرياً بالبطء والتباطؤ ومشية السلحفاة• ومع ذلك ما زال هناك شيء من هذه القضية باق يصعب، وربما يستحيل على إسرائيل، القضاء عليه•

وهذا وضع يختلف عن الأزمة السورية الراهنة، حيث الوقت سيف قاطع لا ينفع معه البطء الشديد في حركة النظام العربي إذا تحرك أصلاً• فقد كان واضحاً منذ حادث اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الراحل رفيق الحريري في 14 فبراير الماضي، أن سُحُب أزمة عاتية تتجمع في سماء دمشق وتنذر بكارثة قد لا تقل هولاً عن المأساة العراقية• ومع ذلك تعاطى النظام العربي مع هذا الوضع بخفة شديدة، وخضعت دوله الرئيسة لإصرار دمشق على عدم تعريبه في الوقت الذي كان تدويله جارياً على قدم وساق•

والآن تأتينا علامة بعد الأخرى على أن دمشق لا ترى فائدة من التعاون الحقيقي مع لجنة التحقيق الدولية، وقبل أيام تحدث الرئيس الأسد في جلسة مغلقة مع أعضاء الأمانة العامة لأحد التجمعات العربية، وقال ما معناه إنه سواء تعاونت سوريا أو لم تتعاون فالنتيجة واحدة، وإذا كان هذا هو اعتقاد الرئيس السوري، فماذا فعل قادة عرب آخرون لإقناعه بغير ذلك، وكيف تصرفوا سعياً إلى إرساء قواعد موضوعية لتقويم حقيقة تعاون سوريا من عدمه حتى لا يُترك الأمر لاجتهادات متأثرة بميراث عدم الثقة المتبادل بين دمشق وواشنطن•

وإذا كان الأمر كذلك، فهل يجوز لنا أن نسأل اليوم عما إذا كانت ثمة رؤية عربية ما لإدارة الأزمة السورية، وهل نجد إجابة أم أننا بمثل هذا الســــــؤال نطلــــب من النظام العربي الرسمي ما لا يستطيعه أو ما لا طاقة له به؟

لقد بلغ هذا النظام في جموده وعجزه مبلغاً لا يسمح بإنتاج رؤية للعمل على أساسها، أقصى ما يستطيعه هو إيجاد توافق شكلي على بيانات وإعلانات بالغة العمومية، وتجنب حدوث خلافات علنية عليها لا يتحملها هذا النظام المأزوم على مستويين: أولهما مستوى التنظيم الإقليمي المشلول فعلياً نتيجة الأزمة التي تضرب أعضاءه (دول الجامعة العربية) وبسبب ضعف كفاءته وقلة فاعليته وتعوده على صيغات روتينية للعمل لا يجيد معظم موظفيه غيرها• فقد أصبح دور الأمانة العامة لجامعة الدول العربية الآن هو البحث عن صياغات لبيانات وإعلانات تصدر عن اجتماعاتها سواء على المستوى الوزاري أو على مستوى القمة• ولا يريد أعضاؤها منها أكثر من أن تكون جهازاً للصياغة يحترف إعادة إنتاج بيانات وقرارات نمطية•

أما المستوى الثاني فيخص الدول الأعضاء في الجامعة ونظم الحكم فيها، فهذه نظم تختلف في كل شيء تقريباً من حيث شكلها وهيكلها وتركيبها واتجاهاتها وعلاقاتها بالمجتمع الدولي وقواه الكبرى، ولكن يجمع بين معظمها قاسم مشترك أساسي هو أنها تعاني بدرجات متباينة أزمتين تعتبران الأخطر على الإطلاق بالنسبة إلى أي نظام سياسي، وهما أزمة الشرعية وأزمة الفاعلية• ولذلك بات طموح معظمها محصوراً في العمل على تعزيز إمكانات استمرارها في السلطة• ولكنها لا تمتلك الكفاءة اللازمة للسعي إلى تحقيق هذا الهدف من دون تأثير فادح على مجتمعاتها وبالتالي على مستقبل الأمة في مجملها•

وفي هذا السياق لم تجد معظم نظم الحكم سبيلاً لضمان استمرارها إلا وقف التطور الطبيعي للمجتمعات، فأخذ هذا التطور مسارات عشوائية مرتبكة• وانعكس هذا التشوه على النظام العربي الرسمي الذي صار إلى جمود لا مثيل له في تاريخ النظم الإقليمية في العالم المعاصر• هذا الجمود أظهر التناقض جلياً بين شيخوخة دبت في أوصال النظام العربي، كما أعضاؤه في مختلف دول هذا النظام بأشكال مختلفة، وشباب المجتمعات العربية الذي يبدو حائراً فاقد الاتجاه•

وعندما يتلازم الجمود والشيخوخة، أو يجتمع العجز عن الحركة وتصلب الشرايين، يصبح العلاج صعباً حتى إذا أدرك المريض حاجته إلى هذا العلاج• لقد أدركت نظم الحكم العربية أن الحرب على العراق كانت جزءاً من رؤية أوسع لإعادة ترتيب العالم العربي، وبالتالي الشرق الأوسط، بدءاً بتفكيكه• ولم يكن لها إلا أن تفهم ذلك لأنه كان واضحاً إلى حد يستحيل إغفاله• كما كان سهلاً أن تعرف أن السبيل الوحيد لتجنب النتائج الكارثية لهذه الرؤية هو أن تشرع في إصلاح أوضاعها سواء الداخلية أو الإقليمية•

ولذلك تفاءل البعض، ومن بينهم كاتب السطور، عندما بدا للحظة عقب الحرب على العراق أن باباً للإصلاح العربي يوشك أن يفتح• ولكن على مدى ما يقرب من ثلاث سنوات، منذ شن الحرب على العراق، لم يحدث إلا أقل القليل في مجال الإصلاح الداخلي وعلى صعيد إصلاح النظام العربي على حد سواء•

وإذا كانت هذه هي حال النظام العربي الرسمي، فكيف ننتظر منه رؤية، ناهيك عن أن نتطلع إلى دور فاعل له، في الأزمة السورية التي يبدو غيابه فيها مؤشراً على غيبوبة قد لا يفيق منها•