عبدالإله بلقزيز/المستقبل

من يستعيد وقائع الصراع العربي ـ الإسرائيلي والديناميات الدافعة فيه، خلال السنوات الستين الأخيرة، يَلحَظ جُملة من السمات الخاصة به: تطبعه وتميّزه عن سواه من الصراعات الإقليمية التي يزخر بها العالم المعاصر. فإلى كونه صراعاً من جانب الفلسطينيين والعرب مع مشروع إحلاليّ استيطاني إجلائي يتجاوز، في طبيعته، النماذج الكولونيالية المعروفة، ويطرح نفسه نقضاً للكيانية الوطنية الفلسطينية وموقع قتال مسلّحاً وحصيناً في وجه محيطها العربي...، ينطوي على أبعاد رمزية تتخطى العوامل المادية التقليدية التي تصنع أي صراع وتعبّر عن نفسها مباشرة فيه. ومهما حاول الباحث في علاقات هذا الصراع، الجاري على أرض فلسطين وجوارها العربي، تقصّي الأوجه والأشكال المادية له، والتماس تفسير سياسي للعوامل الحاكمة له والديناميات الدافعة فيه، فهو لن يَسَعُه تجاهل الأسباب غير المادية (أو غير السياسية) وغير المباشرة، أي تلك التي أسميناها بالرمزية.

إذا استعرنا بعض مفاهيم ألتوسير وبيتلهايم وبولاتنزاس لتعيين طبيعة تلك الأبعاد الرمزية بعيدة التأثير في الصراع العربي ـ الإسرائيلي نقول: قد لا تكون أبعاداً محدّدة، لكنها تبدو ـ في سياقات الصراع ـ أبعاداً مسيطرة (Dominate). قد يعود مبدأ التحديد الى عوامل المصلحة المادية في الاستيلاء والسطو على فلسطين من قِبَل الحركة الصهيونية، أو في استعادتها الى أهلها الفلسطينيين والعرب؛ لكن أحداً لا يملك أن يتجاهل ـ مثلاً ـ التأثير البالغ الذي يُمارسه المخيال الديني (الإسلامي ـ المسيحي واليهودي) في معركة الصراع على فلسطين؛ وربما فاقَ غيره من المؤثرات الأخرى أحياناً، الأمر الذي يجوز معه حسبان تلك الأبعاد المسيطرة أو غالبة في تمثّل معنى الصراع وفي ممارسته.

لِنَقُل ـ إذن ـ أن لهذا الصراع أبعاداً فكرية وعقدية وحضارية: مُضْمَرة أحياناً ومُعلنة في معظم الأحيان، وهي التي بها يكاد ينفرد عن الأعمّ الأغلب من الصراعات المزمنة التي تُشبهه ـ أو تقارب ـ في الحدة والضراوة. فالذين يخوضون هذا الصراع، من الجانبين، لا يخوضونه باسم حقوق وطنية أو سياسية فحسب، بل أيضاً باسم حقوق تاريخية ودينية نصّت عليها كتب السماء؛ وهو ما يزوِّد اشتباكهم بطاقة لا تكاد تنضب.

وإذا أمكن أن يُقال ـ وهو ممكن ـ إن الصراع بين الفلسطينيين والعرب وبين الحركة الصهيونية ودولتها العبرية صراع على الأرض، وعلى المصالح المادية فوق تلك الأرض، فهو في الأثناء صراع على هوية تلك الأرض وهوية أهلها ونَسَبِهما الحضاري. وما أغنانا عن القول إن حروب الهويات (الثقافية، الدينية، القومية، الحضارية) أشدّ فتكاً وشراسة من حروب المصالح المادية (الاقتصادية، السياسية، الاستراتيجية) لأنها هي نفسها حروب مصالح مادية، ولكن معطوفة على تلك المصالح الرمزية التي تستوطن نسيجها. لذلك يبدو عنفها مضاعفاً.

الصراعات التي من نوع الصراع العربي ـ الإسرائيلي تُستخدم فيها جميع أنواع الأسلحة: السياسة، والقتال، والديبلوماسية الكاذبة، والحجاج بالوثائق السياسية والعقارية والدينية، وقتل العدو وإن كان أعزل. ربما كانت الحرب العسكرية هي الشكل الأعلى حدّة في التعبير عنه، لكن الحرب لا تُخاضُ دائماً وكل يوم على الجبهات العسكرية. ومع هذا، يستمر الصراع عنيفاً بين الفريقين. وليس سبب ذلك في أن وسائل النضال السياسي والمعركة الديبلوماسية تشتغل على نحو فعّال فتعوّض عن استمرار القتال أو تمارس القتال بطريقة غير عسكرية، ذلك أن الجبهة السياسية نفسها تكاد تكون مقفلة أيضاً كالجبهات العسكرية، والتفاوض يُطل بين حين وآخر ثم يختفي. ولكن الصراع ـ مع ذلك ـ مستمر: ليس في فلسطين فحسب، بل وفي البلاد العربية كافة بعد رجات متفاوتة.

ولو تركنا جانباً حالات من الصراع المباشر مع المشروع الصهيوني بدا فيها قتالاً ـ كما في الضفة والقطاع وجنوب لبنان ـ أو مواجهة سياسية واقتصادية، كما في حركة مناهضة التطبيع (في المغرب ومصر والأردن ولبنان واليمن والكويت)، لأمكننا أن نَلحَظ الشكل اليومي المستدام لذلك الصراع: الصراع النفسي الجاري في الوجدان العام، عند العرب ـ مسلمين ومسيحيين ـ كما عند اليهود. وغنيّ عن البيان أنه الصراع "الصامت" الذي يزوّد الصراع "الناطق" (السياسي والعسكري) بأسباب استمراره محتدّاً ومتجدداً في صور مختلفة. وما أغنانا عن الحاجة الى بيان خلفية حالة الاستنفار النفسي لدى العرب والإسرائيليين في مواجهة بعضهم أو ضد بعضهم بعضا. إنها خلفيتهم الدينية والثقافية والحضارية التي تزوّدهم بمشاعر العداء المتبادل، والشك المتبادل، وتحمل كل فريق على الاعتقاد بأنه صاحب الحق الحصري في الأرض التي يخوض المعركة من أجلها.

في مثل هذا الصراع، يقع استدعاء الذاكرة، والرموز، والتاريخ، وتعاليم الدين، والوعد الإلهي في الأرض المقدّسة... إلخ، يمتشقها كل فريق سلاحاً ويتزوّد بها طاقة في المواجهة. الأهم من ذلك بكثير أنه يجري استدخال هذه الموارد الرمزية في الخيارات البرنامجية لدى طرفيْ الصراع. لا يكتفي الفريقان بتجنيد الموارد الاقتصادية والقدرات العسكرية فحسب، بل تعبئة الجمهور أيضاً باستثمار المقدّس والرمزي الثاوي في مخياله ودفعه (الجمهور) الى وعي المعركة بوصفها نداء متعالياً أو واجب وجود لا يكون هذا ـ وجوداً ـ إلاّ به.

ربما حاولت القيادات العربية والفلسطينية أن تنأى قليلاً عن النظر الى الصراع من هذه الزاوية الدينية ـ الثقافية ـ الحضارية، فتتعامل معه بوصفه صراعاً سياسياً صرفاً (ولم يكن ذلك ـ للمفارقة ـ حال القيادات الصهيونية!). لكن إعراضها عن الأبعاد الرمزية للصراع العربي ـ الإسرائيلي ما كان شأن جمهور عربي عريض لم يتوقف عن استدعاء تلك الأبعاد في وعيه الصراع ذاك.