سركيس نعوم/النهار

سقط الحزب الوطني الحاكم اكثر من مرة في الانتخابات الاشتراعية التي اجريت منها مرحلتان قبل ايام. ويتوقع ان يسجل مزيدا من السقوط في المرحلة الثالثة الاخيرة المقرر اجراؤها اوائل الشهر المقبل. المرة الاولى، عندما اظهر عدد من السياسيين المنضوين في رايته شيئاً كثيرا من عدم الانضباط دفعهم الى ترك الحزب والترشح للانتخابات كمستقلين، الامر الذي اثبت ان تعلقهم ليس بالحزب الذي انتموا اليه سنوات طويلة ولا بمبادئه بل بالمواقع النيابية التي امنها لهم وبالمكاسب السياسية وغير السياسية التي حققوها من خلاله. والمرة الثانية، عندما اعاد الحزب المذكور الذين فازوا كمنشقين عنه او كمستقلين او على الاقل معظمهم في الدورتين الاوليين من الانتخابات الى صفوفه رغبة منه في الحصول على اكثرية موصوفة في مجلس النواب بدا ان تحقيقها صعب جدا في ظل الظروف الدقيقة التي تعيشها مصر والمنطقة. وكشف ذلك انتهازية متأصلة عند الحزب الحاكم كما عند المنشقين عنه او المستقلين. ولا يقلل من ذلك احتمال قول البعض من الفريقين ان "الانشقاق" او الاستقلال كان مجرد لعبة اعداها وشاركا فيها عن سابق تصور وتصميم بغية خداع الرأي العام المصري عبر اعطاء الناخبين شعورا بانهم امام خيارين انتخابيين سياسيين وطنيين في حين انهم في الحقيقة والواقع امام خيار واحد جربوه اكثر من مرة فيئست غالبيتهم منه لانه لم يوفر لامراضهم ومشكلاتهم المتنوعة الدواء الناجع. والمرة الثالثة، عندما استعمل الحزب الوطني الحاكم السلطة على تنوع اجهزتها ومرافقها اولا "لترغيب" المواطنين بوسائل متنوعة كي ينتخبوا مرشحيه وثانيا "لترهيب" المواطنين الذين يؤمنون بسياسات مختلفة عن سياسات الذين يفضلون "تجربة" احزاب اخرى بعدما لمسوا انه لم يحقق لهم امالهم وطموحاتهم ومطالبهم الكثيرة والمتنوعة. وهذا الاستعمال المزدوج رآه مباشرة العالم عبر شاشات التلفزيون وسمعوا عنه من شخصيات مصرية مهمة سياسية واعلامية وقضائية. واذا كانت للسياسيين والاعلاميين مواقف "مسبقة" او اتجاهات معينة فان القضاء الذي حافظ الى حد كبير على صدقيته في مصر وعلى مدى عقود رغم الضغوط والممارسات لا يستطيع احد ان يشكك فيه. وقد ابدى هذا القضاء استياءه من الاستعمال المذكور اكثر من مرة جماعيا حينا وافراديا حينا آخر.

هل يرتكب الحزب الوطني الحاكم الذي يحلو للكثيرين من المعارضين في مصر ان يسموه حزب الحاكم لاقتناعهم بانه ينفذ سياسات الحاكم ويدعم مواقفه خلافا لاصول الحكم الحزبي وخصوصا في المجتمعات الديموقراطية، هل يرتكب اخطاء تؤدي الى مزيد من سقوطه في اوساط الرأي العام المصري والرأي العام الدولي؟

لا بد من انتظار اكتمال الانتخابات الاشتراعية في مصر قبل الخوض بشيء من الجزم في هذا الموضوع. لكن لا بد من الاشارة الى ان ما جرى انتخابيا حتى الآن وما يمكن ان يجري في المرحلة الانتخابية الثالثة لن ينتزع الغالبية من الحزب الوطني الحاكم رغم تكوينها المصلحي الذي يتفق عليه متابعو اوضاع مصر كلهم. ولا بد من الاشارة ايضا الى ان المعركة التي يخوضها الحزب المذكور اليوم في معرض الاعداد للمرحلة النيابية الثالثة الاخيرة هي معركة الحصول على غالبية الثلثين في مجلس الشعب وذلك بغية افراغ انتصار المعارضين من اي تأثير له على مجريات السياسة المصرية الداخلية والخارجية. وهذه معركة جدية لان ما حصل عليه "الاخوان المسلمون" المعارضون حتى الآن يجعلهم يأملون في الحصول على الثلث المعطل او على ما هو اكثر منه وان بقليل. ولأنها جدية فان الطرف "الرسمي" قد يلجأ الى الممارسات السلبية المشار اليها اعلاه نفسها لانه لا يستطيع ان "يكشف" حاكم مصر وان يعرضه للكثير من المساءلة والمماحكة والمعارضة والاعتراض في مجلس الشعب المقبل. ولأنها جدية فان الطرف المعارض الرئيسي بل الاوحد او شبه الاوحد الذي اظهرته النتائج الانتخابية حتى الآن اي "الاخوان المسلمين" سيستعمل كل الوسائل التي في حوزته لاثبات وجوده الفاعل في المرحلة الثالثة. وهي غير عنفية ليس لانه لا يحب العنف او لا يستطيع ان يمارسه او لان تاريخه خال كليا من العنف بل لان ممارسته العنف الآن تؤذيه اذ تحرمه التعاطف الشعبي وربما الخارجي وتعطي السلطة باجهزتها وحزبها الحاكم الذريعة والمبرر للانقضاض عليه بحجة المحافظة على السلم الاهلي ومكافحة الارهاب الاسلامي الاصولي والتي صارت عنوانا للحرب الدولية الاولى في القرن الحادي والعشرين.

وفي اي حال فان النظام المصري الحالي يحصد اليوم "ثمار" ما زرع منذ عقود وتحديدا منذ رئاسة الراحل انور السادات مؤسس الحزب الوطني الحاكم والسامح بقيام حركة حزبية مصرية مضبوطة ومقيدة. فهذا النظام حاول اعطاء الانطباع ان هناك حركة ديموقراطية في مصر. لكنه بممارساته جعل نفسه نظام الحزب الواحد كما انه ساهم في ابعاد الاحزاب الموجودة معه في مجلس الشعب عن قواعدها الشعبية التي صارت تعتبرها ديكورا للنظام وحزبه. وهذا النظام تودد منذ ايام السادات الى "الاخوان المسلمين" واستعملهم من دون ان يسمح لهم بالعمل تحت غطاء حزبي رسمي لتصفية خصومه الكثر وفي مقدمهم الجمهور الناصري والاخر اليساري العريضان. واعتبر دائما انهم لن يصلوا الى حد تشكيل خطر جدي عليه وان في امكانه دائما ضربهم. وهم جادون في ذلك لانهم كانوا في حاجة الى الحركة والتنفس والتواصل مع القواعد. والآن وبعدما صاروا خطرا على الحزب الحاكم والنظام الذي اسسه وجد الاثنان نفسهما عاجزين عن ضربه اولاً بسبب جذوره الشعبية العميقة وثانيا بسبب المتابعة الدولية لما يجري في مصر وبسبب المناخ الدولي المشجع على الديموقراطية وان كانت نتيجتها وصول تيار اسلامي متطرف الى البرلمان. ذلك ان امراً من هذا النوع ربما يخفف من نظرته.

هل تضع الانتخابات التشريعية المصرية مصر على ابواب مرحلة متقدمة من الديموقراطية؟

يتوقف ذلك على الحزب الحاكم فيها او على الحاكم المستند اليه هذا الحزب. كما يتوقف على الفريق المعارض شبه الاوحد الذي حصل على ربع المقاعد حتى الآن والذي قد يحصل على ثلثها في وقت لاحق. فاذا تقبل الحزب الحاكم "هزيمته" وهي كذلك بكل معنى الكلمة واستفاد منها لتعديل الكثير من سياساته، واذا كان التيار المعارض (الاخوان المسلمون) صادقا في خطابه العلني سواء في موضوع الديموقراطية او في موضوع عدم التطرف فان مصر قد تسير وان بصعوبة كبيرة في اتجاهات تساعدها على تجاوز ازماتها الكثيرة. اما اذا امتنع الفريقان او اي منهما عن القيام بذلك فان مصر قد تشهد مرحلة من عدم الاستقرار وقد تدفع الكثيرين داخلها وفي المنطقة والعالم الى اقتناع قديم راسخ في عقولهم هو ان مصر لا تحكم الا من فرعون ما. فقبل عام 1952 كانت الملكية هي الفرعون. وبعد ذلك العام كان عبد الناصر هو الفرعون. ثم اتى بعده انور السادات وحسني مبارك. وترجمة الاقتناع الجديد تكون بالبحث عن فرعون جديد لم تثخنه الجروح ولم تستنزفه اربع ولايات بكل الممارسات التي حفلت بها.