سركيس نعوم/النهار

اللبنانيون مقتنعون بان فصائل منظمة التحرير الفلسطينية وابرزها على الاطلاق حركة "فتح" تسيطر على مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان ولاسيما منها تلك التي لا تزال تشكل نوعا من التحدي لسلطة الدولة اللبنانية على الاقل منذ انتهاء الحروب الاهلية وغير الاهلية في بلادهم خريف 1990. ومقتنعون ايضا بان التفاهم مع السلطة الوطنية الفلسطينية المنبثقة من المنظمة المذكورة حول مشكلة هذه المخيمات بل حول المشكلة الفلسطينية في لبنان عموما لا بد ان يعيد الطابع المدني الى المخيمات مع السماح بسلاح خفيف فيها يمكن اهلها من الدفاع عن انفسهم لدى تعرضهم لأي اعتداء وخصوصا من عدوهم التاريخي اسرائيل. ولا بد ان يعيد سيادة الدولة اللبنانية اليها الامر الذي ينزع عنها صفة "البؤرة" المفتوحة لكل الخارجين على القانون من لبنانيين وغير لبنانيين ولكل اصحاب مخططات العبث بامن لبنان والمنطقة. وهم مقتنعون اخيرا بان القوة الشعبية الكبيرة التي تمثلها "فتح" في المخيمات مع القدرة العسكرية التي تمتلكها تستطيعان حسم الامور داخلها لمصلحة التفاهم النهائي بين المقيمين فيها والدولة التي لجأوا اليها قبل 57 سنة بل والشعب الذي ينتمي اليها.

انطلاقا من هذه الاقتناعات الثلاثة رحب اللبنانيون بالحوار الذي بدأ بين السلطة الوطنية الفلسطينية والحكومة اللبنانية واملوا في ان يؤدي الى تسوية جدية تتيح لـ"فلسطينيي لبنان" العيش بكرامة والانضواء تحت لواء مرجعية تمثلهم لدى دولة لبنان وتعيد الى اللبنانيين شعورا افتقدوه طويلا هو انهم اسياد على ارضهم وانهم لن يتعرضوا مرة اخرى للاستهداف من اخوانهم الفلسطينيين او من بعضهم او من بعض الجهات الاقليمية التي تعتمد على هؤلاء سواء للمحافظة على مواقع نفوذ لها في لبنان او لإنشاء مواقع نفوذ كهذه. الا ان اللبنانيين "نقزوا" عندما رأوا ان الحوار المشار اليه لم يتوصل الى النتيجة المرغوب فيها او على الاقل لم يبدأ السير على طريق الوصول اليها رغم الاستعداد الايجابي الكبير الذي اظهره المسؤولون اللبنانيون والفلسطينيون. و"نقزتهم" في محلها اولا لأن الصف الفلسطيني في لبنان لم يبدُ موحدا الامر الذي يعوق اجراء الحوار وتاليا التوصل الى نتائج. فالفصائل العشرة المرتبطة بتحالف سياسي وغير سياسي مع سوريا والمرتبط بعضها بتحالف مماثل مع الجمهورية الاسلامية الايرانية التي لبعضها وجود مسلح داخل المخيمات وخارجها على الاراضي اللبنانية لا تظهر استعدادا لحل مشكلة فلسطينيي لبنان ولا تزال متمسكة بوضعهم الحالي وبوضعها الحالي الذي هو امتداد لوضع ساد خلال الحروب في لبنان واستمر بعد انتهائها. وتجلى عدم وحدة الصف المذكور بعجز الفريقين الفلسطينيين الكبيرين اي فريق منظمة التحرير وفريق الفصائل العشرة عن الاتفاق على وفد موحد يفاوض السلطة اللبنانية، وهو عجز يعكس الخلاف على جوهر الحل للمشكلة المطروحة او بالاحرى الخلاف على فكرة الحل اكثر مما يعكس خلافات شكلية. و"نقزتهم" في محلها ايضا لان محاولات حل مشكلة فلسطينيي لبنان اظهرت من جديد استمرار وجود احد ابرز وجوه هذه المشكلة منذ نشوبها قبل بدء الحروب في لبنان بنحو ست سنوات وهو اعتماد الفلسطينيين او بالاحرى فريقا محددا منهم تمثله الفصائل العشرة على تحالفات لبنانية لمنع حصول تغييرات جدية في اوضاعهم وانتشارهم ونشاطهم وخصوصا الذي له علاقة بالسلاح في شكل او في آخر. وما مبادرة "حزب الله" محرر معظم الاراضي اللبنانية من الاحتلال الاسرائيلي قبل نحو ستة اعوام ونصف العام الى اعتبار سلاحه والسلاح الفلسطيني واحدا الا دليلا من ادلة كثيرة على ذلك. و"نقزتهم" في محلها اخيرا لان فصائل منظمة التحرير لا تزال مترددة رغم توقها الى التفاهم مع السلطة اللبنانية في اخذ زمام المبادرة لحل مشكلة المخيمات الفلسطينية في لبنان وترك مشكلة الوجود الفلسطيني المسلح خارجها "للزمن" كي يحله وخصوصا ان من شأن ذلك جعل المشكلة الاخيرة محصورة وهامشية رغم ما تمثله من خطورة وتاليا قابلة للحل في شكل او في آخر عندما تنضج الظروف الداخلية والاقليمية واستطرادا الدولية.

ما هي اسباب تردد منظمة التحرير والسلطة الوطنية المنبثقة منها في حسم المشكلة الاولى او في التهيئة لحلها رغم معرفتها بان استمرار عدم حلها لن يكون في مصلحة الفلسطينيين عموما ايا تكن تطورات الاوضاع في لبنان ومحيطه بل في المنطقة كلها؟

الاسباب كثيرة يجيب متابعون من قرب "المشكلة الفلسطينية" في لبنان منذ تحولها مشكلة لبنانية عام 1969 وحتى اليوم ابرزها اثنان. الاول، رفض المنظمة والفصائل المنضوية تحت لوائها اللجوء الى القوة لحسم الموضوع مع رافضي التسوية والتفاهم مع السلطة اللبنانية رغم التفوق العددي للمنتسبين اليها على المنتسبين للفريق الاخر المتمثل بالفصائل العشرة. فالاقتتال الذي ترفض الانجرار اليه داخل الاراضي الفلسطينية المحتلة لضرره الكبير على قضية الشعب الفلسطيني ترفضه ايضا داخل مخيمات لبنان للسبب نفسه. اما الثاني، وهو الاهم، فهو التباينات بل الخلافات الكثيرة بين قادة الاكثرية داخل المخيمات التي تمثلها "فتح" وبينها وبين السلطة الوطنية الطالع معظمها من "فتح" والعلاقات السياسية وغير السياسية التي نسجها هؤلاء او قسم منهم مع جهات اقليمية معينة علاقاتها غير جيدة مع السلطة و"فتح" في آن واحد والتي لا يستطيعون "فضها" او لا يريدون "فضها" ولاسيما بعد المكاسب المعنوية والسياسية وغير السياسية التي امنتها لهم. وهذا يعني في اختصار ان السلطة التابعة لمنظمة التحرير والطالعة في معظمها من صفوف "فتح" لا تستطيع ان تحسم الموضوع في مخيمات لبنان. والحسم هنا ليس عسكريا بالضرورة لأن توافر الوحدة "الفتحاوية" يكفي وحده لتجنب اللجوء الى السلاح. وهذا الوضع لم يكن موجودا في الماضي ايام الحروب او في اثناء السنوات القليلة التي اعقبت انتهاءها. ففي تلك الفترة استقوى احد "امراء" الحرب الفلسطينيين بعسكره وبعلاقاته ووجه انذارا الى احد ممثلي "فتح" والمعاونين المباشرين لياسر عرفات باخلاء مكاتبه في "عين الحلوة" ومغادرته مع عناصره. لكنه تراجع، لان ممثل "فتح" استصدر وعبر الفاكس من تونس قرارا من المؤسس ياسر عرفات يومها بفصل "المتمرد" وبمعالجة وضعه بالقوة العسكرية اذا امتنع عن التنفيذ. لكن عرفات رحل الى جوار ربه، والظروف تغيرت. ولم يعد في امكان الذين خلفوه في السلطة او المنظمة التصرف مثله بل العمل لمهادنة "الامراء" وتكريس مواقعهم وسلطاتهم.

طبعا لا احد من اللبنانيين يريد اقتتالا فلسطينيا في لبنان ولا خارجه. لكن اللبنانيين كلهم يريدون من الفلسطينيين او يتمنون كلهم ان لا يكونوا السبب مرة اخرى في اقتتال بين اللبنانيين او على الاقل في تفاقم عدم الاستقرار في لبنان باعتبار ان قرار الحروب في لبنان لم يعد في يدهم.