ميلود بن غربي/المستقبل

ذكّرت الاضطرابات التي شهدتها فرنسا مؤخراً العالم وفرنسا خصوصاً بالأحداث التي عرفتها باريس وباقي المدن الفرنسية في ربيع 1968، والتي لم تنته إلا بعد موافقة الحكومة الفرنسية على تحقيق المطالب الاقتصادية والاجتماعية لأولئك المحتجين والمضربين في اتفاقات جرونيل (Les accord de Gerenelle) وهذا بعدما نزلت قوات الشرطة والجيش الى الشوارع في الحي اللاتيني بداية الذي شهد أول شراراتها وكان نزول قوات الشرطة هذه المرة ونشر طائرات الهيلوكوبتر وإعلان حظر التجوال في ضواحي المدن الفرنسية لمواجهة أعمال الشغب التي اندلعت في أحد الضواحي الفقيرة بالحي العشرين اثر مقتل شابين من أصول مهاجرة من شمال افريقيا عرضاً بعدما اعتقدا أن الشرطة كانت تطاردهما.

ويبدو أن تضامن المهاجرين المغاربة والأفارقة لم يسبق له مثيل في الحجم والامتداد عبر كامل الأراضي الفرنسية، هذا التضامن الذي خشيت من امتداده الى أراضيها باقي الدول الأوروبية إذ سارع اتحاد المنظمات الاسلامية إزاء استفحال أعمال التخريب، أناة الليل حصراً، للحد منها في فرنسا تحديداً ومنع انتقالها الى أوروبا عموماً الى إصدار فتوى تنص على أنه ممنوع شرعاً على أي مسلم يسعى الى مغفرة الله ورضاه أن يشارك في أي عمل يصيب بشكل أعمى الممتلكات الخاصة أو العامة أو قد يشكل خطراً على حياة الآخرين؛ ولعل موقف الاتحاد هذا ينببع من محاولة إيجاد دور له يؤديه في الاتفاقات مع الحكومة الفرنسية أثناء التفاوض ان حصل وفي هذه الحالة كذلك يكون قد تجاوز صلاحياته.

ومن أكثر التفسيرات تداولاً والتي يتبناها بدوره ذلك الاتحاد هو أن أعمال العنف والحرق والتدمير التي يقوم بها الشباب والمراهقون الفرنسيون قطعاً بحكم أوراقهم الثبوتية وجوازاتهم ولغتهم وإن كانوا من أصول عربية وافريقية بأنها نجمت عن التهميش الذي يعانون منه فهم يعيشون في معازل ويشكون من الاهمال وعدم الاكتراث بآمالهم وطموحاتهم من طرف المسؤولين ويحتلون المراتب الأخيرة في مستوى المعيشة والتمدرس فلا أمل لأولئك الشباب لمجارات الفرنسيين الأصليين بسبب التهميش المحبط بهم من كل جانب. وانسداد الآفاق أمامهم ما يستتبع الانخراط في حياة الانحراف والتمرد على القانون وتكوين العصابات التي أرقت كثيراً الشرطة الفرنسية وأضنتها.

ولأن فرضية التهميش هي الأكثر قبولاً ورواجاً فإن الاجراءات التي اتخذتها السلطات الفرنسية تصب في هذا السياق لمواجهة هذه الأزمة وقطع دابر أحداث أخرى قد تقع مستقبلاً في أوساط هذه الشريحة من الشعب الفرنسي.

بيد أن التركيز على فكرة التهميش وهو ما تقوم بتسويقه وسائل الاعلام العربية، التي بلغت شأواً عظيماً في الدعاية، يجافي الصواب ويتعارض مع الحقيقة. فالفرنسيون من أصل عربي ومعهم مختلف المقيمين العرب الذين يشكلون جاليات الدول العربية في فرنسا لم ينجحوا في تنظيم أنفسهم بشكل حضاري راق وتحقيق إنجازات تؤهلهم للعب أدوار أكبر تليق بهم في عجلات السلطة ودوائر النفوذ وهذا بالقياس الى تعدادهم الكبير نسبياً من ناحية والقوانين الفرنسية التي تسري عليهم مثلما تسري على باقي الفرنسيين الأصليين من ناحية ثانية.

فمعضلة جُل هؤلاء المهاجرين ليست في كون أوضاعهم الاقتصادية سيئة أو أنهم مهمشون، بل المرجح أن لديهم أزمة هوية وانتماء وهي التي تسبب لهم هذه الأوضاع المزرية التي يعيشونها فآباؤهم أو أجدادهم الذين يعبر عنهم عادة بالجيل الأول قدموا من البلاد المغاربية والغرب افريقية في منتصف القرن الماضي للعمل في الورش والمصانع الفرنسية بعدما كانوا فلاحين أميين لقاء رواتب زهيدة لا تتناسب والمجهود الحقيقي الذي يبذلونه ثم ازداد عدد هؤلاء بعدما التحقت بهم عائلاتهم وانضمت إليهم أفواج جديدة من المهاجرين عندما كانت فرنسا لا زالت ترحب بالمزيد منهم لبنائها بعدما دمرتها الحرب العالمية الثانية وأولئك النازحون لم يقطعوا علاقاتهم وأواصرهم بأهاليهم وأوطانهم الأصلية بل بقوا مرتبطين بها وجدانياً وعاطفياً ويتمنون لو تتاح لهم الفرصة للعودة إليها. وإن كان حلم العودة مجرّد أمنية لا يتحقق في عالم الواقع فبلادهم الأصلية متخلفة ومتأخرة بجميع المعايير والمقاييس ولكنهم يتمسكون بها مع ذلك أشد التمسك ويظلون بهذا موزعين بين ولائهم لأوطانهم الأصلية وولائهم لفرنسا وطنهم الجديد الذي استقبلهم.

وفي الوقت ذاته نجد أن المجتمع الفرنسي الذي استضافهم ينظر لهم بعين الريبة والشك كون فرنسا ليست مجتمع هجرة مثل الولايات المتحدة أو كندا من السهل على الوافدين إليها التبوتق فيها بسرعة وهنا تكمن المشكلة التي رأت أطراف عدة أن أنسب حل لها هو الاندماج الكامل، وممن عبروا عن وجهة النظر هذه صراحة وإن لم تكن موجهة لمهاجري شمال افريقيا رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان قاصداً جاليته في أوروبا كون الهوية صفة مكتسبة غير وراثية.