توفيق المديني/المستقبل

عقب القمة العالمية لمجتمع المعلومات التي عقدت بتونس ما بين 16 وحتى 18 تشرين الثاني، كان الموضوع الرئيس للمواجهة يتمثل في "حكومة الانترنت"، حيث تصر الولايات المتحدة الأميركية على إبقاء سيطرتها على مقاليد الانترنت، في مواجهة بقية العالم. وتبلور في قمة تونس مساران متوازيان تشكل الأول من بلدان العالم الثالث وأساساً افريقيا وكذلك بلدان أوروبية تسعى لسحب إدارة شبكة الإنترنت من الشركة الأميركية المكلفة بالموافقة على أسماء المواقع: (Internet Corporation fo Assigned Names and Numbers). "انترنت التعاون من أجل الأرقام والأسماء المحدودة العروف بـ أيكان"، وهي مؤسسة للحقوق الخاصة لا تهدف للربح، مقرها في لوس أنجلوس وتخضع لقانون كاليفورينا، كما تخضع لسيطرة وزارةالتجارة الأميركية، على أمل تفويضها لإحدى هيئات الأمم المتحدة. أما المسار الثاني ففرضته المنظمات غير الحكومية التي طرحت قضية حرية التعبير وحماية المعارضين والمنشقين داخل كل بلد بالإعتماد على حصاد الجلسات التي عقدتها قبل القمة في إطار ثلاثة اجتماعات تحضيرية في الحمامات العام الماضي ثم في جنيف في وقت سابق من العام الجاري. إن أغلبية البلدان تريد من أميركا أن تتقاسم وإياها حق تعريف المعايير والقواعد لآلية عمل شبكة الانترنت، بل نقلها الى الأمم المتحدة. بيد أن وزارة التجارة الأميركية أعلنت أنها لن ترخي قبضتها. وحذرت واشنطن الدول الديموقراطية من إحتمال صعود قوي للديكتاتوريات، التي ستكون في حوزتها وسائل جديدة لكبحح الحريات في بلدانها، إذ انتقلت السيطرة على الانترنت الى هيئة دولية. وتقول الولايات المتحدة الأميركية أيضاً أنها تخشى من سيطرة "بيروقراطيين" دوليين غير كفوئين على شبكة الانترنت.

السؤال المطروح: كيف يمكن "تدويل" الانترنت؟ تستهدف الخيارات الليبرالية أو الدولنية كلها قطع علاقة السيطرة التي تخضع إدارة الشبكة لوزارة التجارة الأميركية. فمن الناحية التاريخية، الانترنت إختراع أميركي في زمن الحرب الباردة حين بدأ بالنتاغون يبحث عن طريقة يطور فيها نظام الإتصال (التواصل) ليتمكن من الوقوف أمام الهجومات النووية، وليتيح للمسؤولين السياسيين والعسكريين التواصل فيما بينهم. ثم إن الأميركيين سواء على مستوى الشركات، أو الباحثين والمهندسين هم الذين اخترعوا الانترنت في قسم أساسي منها، ومولوا انتشارها بواسطة المال العام في البداية ثم بواسطة قطاعهم الخاص في مرحلة لاحقة، مما منحهم سيطرة مطلقة على الشبكة الأم. وهم يمسكون بجميع الخيوط إذ بإمكانهم تعطيل الشبكة متى شاءوا حتى لو لم يضغطوا على أي زر وهم لا يرغبون في التخلي عن الرقابة التي يتمتعون بها حالياً.

وتعتبر أيكان (I cann) أكبر محول في الشبكة. وترتكز الشبكة العالمية على جهاز كومبيوتر واحد يلقب "الأصل الأخير" الذي ينظم آليات عمل إثنتي عشرة كمبيوتراً يطلق عليهم تسمية "الخدم الأصليين" على مستوى الكرة الأرضية. وهذا الجهاز الموجود في مكان سري، هو بمنزلة كبير مسيطر عليه من قبل الـ أيكان، شركة خاصة ذات هدف غير ربحي خاضعة لسلطة وزارة التجارة الأميركية.

لكن منذ بعض الوقت، لم يعد هناك أي توافق. وبات وضع اليد الأميركية على الشبكة موضوع نزاع. ففي شهر أيلول أجمعت دول الإتحاد الأوروبي في جنيف على المطالبة بإصلاح في حكومة الانترنت بمناسبة وصول العقد الذي يربط أيكان بوزارة التجارة الأميركية الى النهاية بحلول أيلول 2006. أخفق اللقاء وامتنعت واشنطن عن أي تغيير، في حين اصطفت إيران والصين والهند والبرازيل على أرضية الموقف الأوروبي. وقد هدد البعض بإنشاء مشروع مؤسساتها الوطنية الخاصة، ما قد يقود الى تجزئة مدمرة للانترنت.

ويمكن القول إن السؤال الذي تردد في أروقة قمة تونس هو كيف يمكن التوفيق بين ضرورة وجود سلطة مركزية تدير شبكة الشبكات التي يستخدمها مليار شخص ـ حيث تحتل آسيا المرتبة الأولى من الآن فصاعداً، تليها أوروبا، ثم أميركا الشمالية ـ لضمان تقيدهم بضوابط تقنية مشتركة، وبين نزع تلك السلطة من الأميركيين الذين اخترعوا الإنترنت وعلى هذا الأساس ارتفعت أصوات باقي البلدان وفي مقدمتها البرازيل والصين وإيران لكسر القبضة الأميركية وإسناد مهمة الرقابة للدول أو لوكالة متخصصة تابعة للأمم المتحدة. إلا أن الجانب الأميركي أكد بوضوح أنه لا سبيل لأن تتحكم هيئة دولية في الإنترنت سواء أكانت تابعة للأمم المتحدة أم مستقلة عنها "فهذه مسألة متصلة بالمصلحة القومية وبالتالي فهي غير قابلة للتفاوض عليها". وبرر موقفه بكون سلطة التعديل المركزية ينبغي أن تبقى بأيدي القطاع الخاص في إشارة الى مؤسسة "أيكان".

لقد أخفق مؤتمر تونس في إصلاح نظام إدارة أسماء الموضوعات. هذه المهمة التقنية التي تقوم بها اليوم جمعية حقوق كاليفورنيا أيكان. وعلى الرغم من إنشاء مؤتمر حكومة الانترنت الذي سيعقد أول لقاء له في أثينا في الفصل الأول من عام 2006. إلا أن السيطرة الأميركية على مراقبة الانترنت ليست اليوم محط إتهام. وسيظل مؤتمر حكومة الانترنت عضواً إستشارياً بحتاً. وقد أبدت الولايات المتحدة الأميركية أنها لن تتخلى عن "دورها التاريخي".

وتتذرع واشنطن برفض تنازلها عن سيطرتها على شبكة الانترنت الى المجتمع الدولي بإثارة ضرورة إقصاء الدول غير الديموقراطية عن أي سيطرة. فالديموقراطية لا يمكن لها أن تنتشر وتنغرس إلا إذا تطورت وسيلة الإتصال والتعبير هذه.

وكان واضحاً أن المخاوف الأميركية من خطر "الإرهاب" بعد أحداث الحادي عشر من أيلول شجعت كثيراً من الأنظمة الإستبدادية على مزيد من التضييق على استخدام الإنترنت مما حمل المدافعين عن حقوق الإنسان على طرح مسألة الحريات بقوة خلال الورشات التي أقيمت على هامش قمة تونس.