البيان - صبحي غندور - عاجلاً أم آجلاً ستنسحب القوات الأميركيّة من العراق. فالجيش الأميركي والقوات المتحالفة معه احتلّوا العراق ليس بهدف الاستيطان فيه بل من أجل مشروع سياسي أميركي وضعته النخبة الحاكمة في إدارة الرئيس الأميركي جورج بوش حتّى قبل استلام الحكم في العام 2001.

وقد أصبحت مضامين هذا المشروع الأميركي معروفة للعالم أجمع بما فيه من عناصر سياسيّة واقتصاديّة وأمنيّة تستهدف السيطرة على ثاني مخزون نفطي في العالم، وعلى منطقة تضخّ النفط والغاز لكل المنافسين الدولييّن للولايات المتحدة الّتي تتربّع اليوم عرش قيادة العالم.

طبعاً، من الخطأ الكبير الاعتقاد أنَّ القوات الأميركيّة ستنسحب كلّياً من العراق في المدى الزّمني القريب. فالإدارة الأميركيّة تخطّط الآن لتخفيض عدد القوات بنسبة الخمس تقريباً قبل شهر نوفمبر من العام المقبل، وهو موعد الانتخابات الأميركيّة النصفيّة الّتي يتم فيها انتخاب كل أعضاء مجلس النواب وثلث عدد أعضاء مجلس الشيوخ. وقد أصبح مطلب سحب القوات الأميركيّة من العراق قضيّة بارزة في الحياة السياسيّة الأميركيّة وهو الأمر الّذي يضعف الحزب الجمهوري المضطّر الآن للتضامن مع إدارته الحاكمة.

وهناك جملة أسباب تدفع إدارة بوش للحديث عن إمكانيّة سحب بعض القوات من العراق، وأهم هذه الأسباب هو تصاعد الحملة الرافضة للحرب داخل أميركا نفسها، وتزامن هذه الحملة مع هبوط نسبة تأييد الأميركيين للرئيس بوش ووصولها إلى أدنى مستوى لها منذ استلامه الحكم في مطلع العام 2001.

فبالإضافة إلى اهتزاز ثقة الأميركيين بإدارتهم الحاكمة نتيجة السياسات الّتي اتبعتها هذه الإدارة، والفضائح الّتي تحوم حول بعض أركانها، فإنَّ حجم الخسائر البشريّة الأميركيّة في العراق، وضخامة المبالغ الّتي تصرف على الحرب، هي عناصر أساسيّة في تزايد الدّعوة للانسحاب الأميركي من العراق.

هذا على الجانب الأميركي. أمّا في العراق، فإنَّ ممارسات الاحتلال الأميركي كانت هي أيضاً عنصراً مهماً في تعثّر مشروع إدارة بوش وأهدافها من غزو العراق. فالاحتلال الأميركي للعراق أدّى إلى هدم أركان الدولة العراقيّة وليس فقط إسقاط النظام السابق. وكانت مسيرة الاحتلال لأكثر من سنتين ونصف سنة، حافلة بسياسات وممارسات تدفع لاتساع دائرة الرافضين للاحتلال داخل العراق وخارجه.

لقد قامت الإدارة الأميركيّة بالحرب على العراق تحت شعارات كان منها تحويل العراق إلى نموذج ديمقراطي في الشرق الأوسط، بينما واقع الحال الآن أنَّ العراق تحوّل إلى نموذج لمجتمع مفكك قائم على صراعات داخليّة تهدّد بحرب أهليّة. وكان من ضمن الشعارات الأميركيّة للحرب إضعاف الإرهاب الدّولي، فإذا بالإرهاب يتعزّز وينتشر إقليميّاً ودوليّاً، ويستهدف العراقيين يوميّاً في مزيج مقصود ومتعمّد مع عمليات المقاومة ضدّ الاحتلال.

إنَّ مأساة العراقيين الآن هي حصيلة مزيج مركّب من خطايا الماضي والحاضر معاً. فالعراق انتقل من دكتاتوريّة النظام السابق وممارساته الظالمة إلى واقع الاحتلال وإفرازاته الانقسامية والدمويّة. وفي الحالتين، تغييب للمصالح الوطنيّة العراقيّة، وإضعاف واستنزاف للمجتمع العراقي، وتفسيخ لوحدة الكيان والشعب معاً. فزواج الخطايا هذا لا يمكن أنْ يولد حالة عراقيّة صحيّة وصحيحة.

لكن السؤال المهم هو ليس عن الماضي والحاضر، بل عن كيفيّة رؤية مستقبل العراق، وهو أمر مهم للعراقيين وللعرب والعالم كله. فالعراق ليس أفغانستان أو الصومال من حيث الموقع والأهميّة الاستراتيجيّة والثروات الطّبيعية والبشرية، لكن ما حدث في هذين البلدين في عقد التسعينات قابل للتكرار في العراق إذا لم تتوفّر العناصر المانعة لذلك.

فالقوات الأميركيّة والدوليّة انسحبت من الصومال بعد مواجهات عسكريّة مع جماعات صوماليّة مسلّحة. لكن ذلك لم يكن مدخلاً إلى حياة أفضل للصوماليين بل كان فرصة لصراعات داخليّة يعاني الصومال منها حتّى الآن. أيضاً في تجربة أفغانستان،

فإنَّ انسحاب الجيش الروسي منها وسقوط النظام الشيوعي في كابول، كان نصراً مؤقّتاً تحول إلى إعلانٍ ببدء حرب أهليّة أفغانيّة سبّبت خسائر بشريّة ومادّية فاقت ما حصل في فترة الاحتلال الروسي لأفغانستان، وأدّت إلى هيمنة نظام »طالبان« بكل تخلّفه الفكري والسياسي وإلى احتضانه لجماعات متطرّفة من بلدان إسلاميّة عديدة.

إنَّ إنهاء الاحتلال الأميركي والأجنبي للعراق يجب ألا يكون موضع نقاش أو خلاف بين العراقيين، بل إنَّ الوفاق الوطني العراقي على مستقبل العراق سيعجّل بدون شك في إنهاء الاحتلال، وسيضع ركائز الدولة العراقيّة الجديدة. لذلك فإنَّ مؤتمر الوفاق الوطني العراقي الّذي رعته جامعة الدول العربيّة كان خطوة مهمة في الاتجاه الصحيح، وعلى الصعيدين العراقي والعربي معاً.

إنَّ بعض العراقيين الآن يرفضون حاضر الإحتلال ويقاومونه (وهذا أمر جيد طبعاً) لكن بهدف العودة للماضي الّذي كان سائداً قبل الاحتلال. بينما نجد قطاعاً آخر من العراقيين يقبل بعناصر الاحتلال ومساوئه، نتيجة معاناته الطويلة في الماضي من ممارسات النظام السابق.

وهنا تكمن أهميّة اتفاق العراقيين الآن على رفض سلبيات الماضي والحاضر معاً، وعلى وضع الأسس السليمة لبناء عراق جديد ديمقراطي موحّد واضح الهويّة والإنتماء والدور في محيطه العربي والإسلامي.

فالنظام العراقي السابق أهدر ثروات العراق البشريّة والماديّة على مدار أكثر من ثلاثين سنة، وكانت ممارساته الداخليّة والخارجيّة هي المسؤولة عن وقوع العراق تحت نير الاحتلال. واليوم، أصبح الاحتلال الأميركي هو المسؤول عن تفكّك العراق وعن إهدار دم الأبرياء فيه وعن استنزاف طاقاته البشريّة والماديّة.

فلا حاضر العراق يشفع لماضيه الصّدامي، ولا ماضي الظلم هو البديل المنشود للاحتلال، ولا هو أيضاً المبرر للتعاون مع المحتل أو التمسك به. فأيُّ عراقٍ للمستقبل، هو السؤال الّذي لا يجد إجابة شافية يتفق عليها الجسم السياسي العراقي المريض.