بلال الحسن (الشرق الأوسط)
حتى الانتخابات الداخلية في حركة فتح، من أجل اختيار من سيترشح إلى المجلس التشريعي، تحولت إلى معركة حادة، استعمل فيها الحرق والرصاص وتخريب صناديق الاقتراع. وهو ما دفع اللجنة المحلية المشرفة على الانتخابات (لجنة قطاع غزة) إلى اعلان تأجيل الانتخابات برمتها، وإجرائها فقط في الأماكن التي يتوفر فيها هدوء أمني أو سيطرة أمنية.

المحرك الأساسي لهذه المعركة هو موضوع العضوية، وخلف موضوع العضوية تكمن الكتل المتصارعة (حلّس ـ دحلان في حالة قطاع غزة)، ثم يبرز من خلف الكتل المتصارعة الموضوع السياسي حول هوية حركة فتح، هل هي حركة الشعب الفلسطيني أم هي حركة الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة؟

إنها إذاً أزمة غير عادية، تدور داخل الحركة التي تحولت إلى ما يشبه الحزب الحاكم، أو الحزب الواحد، وهي تشهد الأمراض نفسها التي تترافق مع الحزب الحاكم أو الحزب الواحد.

لا يتكلم المسؤولون عن طبيعة الأزمة، ولا يشرحون علنا كيف ستعالج، ويكتفون بالقول إن الانتخابات ستجري حيث يمكن إجراؤها، وإلا فإن القيادة ستعين المرشحين في كل منطقة يتعذر إجراء الانتخابات فيها.
من هو العضو في حركة فتح؟ هل هو كل مناضل حمل السلاح بالأمس واصبح عاملا في إحدى هيئاتها؟ أم هو العضو الذي مضت على عضويته فترة زمنية مديدة، مارس خلالها كل المهمات التي كلف بها، وعاش أجواء حياتها التنظيمية بالكامل، واثبت جدارته لهذه العضوية؟
هل توجد داخل حركة فتح هيئات تصنف العضوية، مثلا: عضوية الأنصار، عضوية المؤازرين، العضوية العاملة؟ لا نعرف أن شيئا من هذا موجود داخل حركة فتح. هل تمتلك حركة فتح نظاما داخليا، مقررا ومتفقا عليه، ويجري العمل بموجبه؟ لا نعرف أن شيئا من هذا موجود داخل حركة فتح. ما نعرفه هو أن فريقا من الكوادر المناضلة، التي ترعرعت في ظل مقاومة الاحتلال، وساهمت بنشاط في أعمال الانتفاضة الأولى (1987) والثانية (2000)، يطالب اليوم بإقصاء القيادة التاريخية للحركة وتسلم زمام القيادة بدلا منها. إنه يرفع شعار صراع الأجيال علنا، ويرفع شعار قيادة الخارج وقيادة الداخل سرا، ونادرا ما نسمع منه حديثا عن حركة فتح خارج أراضي الحكم الذاتي الفلسطيني.

إذا استمر الحال على ما هو عليه فإن المشكلة ستنمو وتكبر، والخلافات ستتوالد وتتناسل، وستعم الانقسامات والشللية، ولا نعود ندري من هو في حركة فتح ومن هو خارجها. ولا نجد حلا لهذه المشكلة التنظيمية الداخلية إلا بإيجاد مرجعية يتم الاحتكام إليها، ليست مرجعية تنظيمية بالطبع، إنما مرجعية تشريعية، يعبر عنها نظام داخلي، تتم صياغته بهدف معالجة المشكلات القائمة، ويجد كل كادر فيه مكانته، وحقه في الوصول إلى العضوية العاملة، ومستقبله في الترقي التنظيمي، وأمله في المشاركة في صنع القرار السياسي. وقيادة فتح التاريخية هي المؤهلة لصياغة هذا النظام الداخلي الغائب والمطلوب، أولا لأن هذا العمل مسؤولية من مسؤولياتها الأساسية، وثانيا لأن القيادات المعترضة هي وليدة العمل النضالي التاريخي لتلك القيادة. إن هذه الكوادر الجديدة والمعترضة هم أبناء حركة فتح، ومن حق حركة فتح أن تفخر بهم، ومن واجبها أن تحتضنهم وأن تفتح أمامهم طريق المستقبل، وأن تهدم السور التنظيمي الذي يحد من حركتهم، والذي فرضته ظروف النضال الماضية، خوفا على الحركة وحرصا عليها، من التسيب أو الانشقاق أو الاختراق من قبل الخصوم والمنافسين.

إن وضع نظام داخلي والإعلان عنه، وطرحه للمناقشة الموسعة، تمهيدا لعرضه على مؤتمر الحركة العام، هو المدخل لتحويل الصراع الدائر في حركة فتح، من صراع تنابذ إلى صراع مثمر ومنتج. اما البقاء في الدائرة الحالية المغلقة، فإنه لا ينتج سوى حديث وصفي عن صراع الأجيال، أو حديث عن الترهل، أو حديث عن الامتيازات، وهي كلها أحاديث أقرب إلى الشتائم منها إلى الرغبة في المعالجة الجادة.

وحتى يستقيم هذا البحث ويدخل في إطار ايجابي، فإن مسؤوليات تقع على عاتق الكوادر الجديدة المعترضة. عليها أولا أن تتوقف عن هذا النوع من الصراع التنابذي، صراع الاتهام والإدانة لقيادات ناضلت ووضعت كل عمرها في خدمة حركة فتح، قيادات رعت وحمت ولادة الجيل الجديد المناضل داخل حركة فتح، وما كان له أن يولد من دون رعايتها النضالية، رعاية امتدت من كمال عدوان إلى خليل الوزير إلى ياسر عرفات، وهم القادة الثلاثة الذين تولوا الإشراف على العمل الفتحاوي في الضفة الغربية وقطاع غزة، عبر ما كان يعرف باسم (جهاز الغربي). وعليها ثانيا أن تدرك وجود شريحة داخل الجيل الشاب المعترض، تتحرك بدافع الحرص على مناصب السلطة، أو بدافع الرغبة في الوصول إلى تلك المناصب، ولا يجوز لهذه الشريحة أن تضفي سماتها على تحرك المناضلين الحقيقيين الذين يشكلون غالبية هذا التيار، ومن الواجب محاصرة هذه الشريحة وإقصاؤها عن التأثير في الشعارات والتوجهات. وعليها ثالثا أن تدرك وجود شريحة أخرى تتحرك حسب أجندة سياسية خاصة بها، وهي أجندة يخشى الكثيرون من خطرها، ويعرفون أنها ستقود إلى إشكالات سياسية كبيرة، ومن مصلحة الجيل الشاب المناضل أن ينأى عن هذه الشريحة وأن يميز نفسه عنها. وحين يدرك الجيل الشاب المناضل داخل حركة فتح هذه الإشكالات الثلاثة، وحين يصوغ تحركه بعيدا عنها، فإنه يفتح بابا واسعا أمام لقاء موضوعي بينه وبين القيادة التاريخية، يحقق كثيرا من الأهداف التي يتطلعون إليها، ويحفظ للحركة وحدتها التنظيمية الداخلية، كما يحفظ لها وحدة تواجدها وتعبيرها عن نضالات الشعب الفلسطيني في أماكن تواجده الأخرى.

إن كتلة تنشأ داخل تنظيم أو حزب، يفترض بها أن تقدم نفسها على أنها تمتلك برنامجا سياسيا ونضاليا أفضل من برنامج القيادة القائمة. ويلقي هذا مسؤولية على القيادة الشابة المعترضة، لكي تبادر إلى طرح مثل هذا البرنامج، وتركيز الخلاف حوله. آنئذ يصبح الخلاف مشروعا وواضحا ومنتجا، ويصبح أداة فعالة في توحيد الجهود بين المواقع والكتل. أما في غياب مثل هذا البرنامج فإن الصراع يتركز حول الاتهامات وما تولده من حساسيات، فهل يملك الجيل الشاب مثل هذا البرنامج؟ هل يملك الجيل الشاب رؤيا خاصة به حول أساليب النضال المطلوبة للضغط على إسرائيل من أجل تغيير موقفها المتعنت؟ هل يملك الجيل الشاب رؤيا خاصة به عن الأمر الواقع الذي يتم الآن فرضه من أجل إلغاء شعار إنشاء الدولة الفلسطينية والعودة إلى الشعار القديم الداعي إلى «التقاسم الوظيفي»، كما حدث في حل موضوع المعابر مثلا؟ هل يملك الجيل الشاب موقفا محددا حول كيفية التصدي لمساعي إلغاء حق العودة؟ ولو أن الجيل الشاب المناضل يسعى لتقديم نفسه من خلال مثل هذه القضايا وغيرها، فإنه سسيبرهن عن جدارته بالقيادة أكثر وأكثر، وسيؤثر على حركة فتح وعلى مستقبل الشعب الفلسطيني. أما مواصلة الاعتراض من دون برنامج سياسي واضح، فإنه لا يفضي إلا إلى تنابز في الألقاب، قد يوفر معركة انتخابية ناجحة، ولكنه يعجز أمام الامتحان العسير.