باتريك سيل

تمكنت سوريا، فيما يبدو، من تجاوز الأزمة الدولية العاصفة التي طوقتها وشكلت مهدداً جدياً لنظام الرئيس بشار الأسد، على الرغم مما أصابها منها من خدوش وتقرحات وكدمات• هذا وقد مارس المجتمع الدولي ضغوطاً مكثفة على دمشق، بقيادة كل من الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا• وكانت واشنطن قد اتهمت دمشق بالسماح للجهاديين بعبور حدودها وصولاً إلى العراق، لمساندة المتمردين والإرهابيين الذين يقاتلون جنودها هناك، بينما استشاطت باريس غضباً مما رأت فيه تدخلاً سورياً سافراً وفظاً، في الشؤون الداخلية اللبنانية، زيادة على غضبها من احتمال مشاركة أياد سورية في مصرع رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري• وتحت كثافة وعنفوان الضغط الدولي، اضطرت سوريا لسحب قواتها العسكرية المرابطة في لبنان منذ عام ،1976 في شهر أبريل الماضي•

ويمكن رد بدايات هذه الأزمة السورية إلى العام الماضي ،2004 حينما أصرت سوريا على تمديد فترة رئاسة الرئيس اللبناني السابق إميل لحود، ثم بلغت ذروتها مع حادثة مقتل رفيق الحريري في شهر فبراير من العام الحالي• بيد أن هناك الكثير من التطورات والمؤشرات التي تشير إلى تراجع هذه الأزمة وانحسارها عن ذروتها، وإلى أن سوريا قد تمكنت من التقاط أنفاسها وتنفست الصعداء على الأقل، إن لم تكن قد توصلت إلى حلول للتحديات الجمة التي تواجهها• وفيما يبدو فقد كان للملك عبدالله بن عبدالعزيز العاهل السعودي، دور كبير في انحسار الأزمة وتراجعها، وذلك بإرساله الأمير بندر بن سلطان -رئيس مجلس الأمن الوطني السعودي- للتوسط ما بين الأميركيين والفرنسيين والسوريين واللبنانيين والأمم المتحدة، إلى جانب بقية الأطراف الأخرى ذات الاهتمام والصلة بالأزمة•

وقد أثمرت جهود الوساطة السعودية تلك، التوصل إلى تسوية ما، من شأنها تجنيب بعض كبار القادة السوريين إحراج وخطر المثول أمام لجنة التحقيقات الدولية، التي أنشأتها الأمم المتحدة للتحقيق في ملابسات مقتل رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري• يذكر أن هذه اللجنة التي يرأسها المحقق الدولي الألماني الأصل ديتليف ميليس، قد أصدرت تقريراً في شهر أكتوبر المنصرم، أشار إلى توصلها لأدلة متداخلة، تشير إلى تورط أطراف وعناصر سورية ولبنانية في تلك الجريمة الإرهابية• غير أن اللجنة الدولية نفسها دخلت في أزمة الآن، وبات مصيرها مجهولاً• فقد طالت الشبهات والاتهامات اثنين من شهودها الأساسيين الذين بنت عليهم تقريرها المذكور• وكما سمعنا وتابعنا في الأخبار، فقد ألقي القبض على الشاهد الأول زهير سعيد صديق -وهو سائق لبناني- في فرنسا وهو حالياً في أحد السجون الفرنسية، بانتظار ترحيله وتسليمه للسلطات اللبنانية، التي يتوقع أن تحقق معه بسبب المعلومات المزورة التي أدلى بها للجنة التحقيقات الدولية المذكورة، في حين سحب الشاهد الثاني حسام حسام -وهو كردي سوري يعمل حلاقاً، إلى جانب تعاونه وعمله مع الاستخبارات السورية في لبنان- الأقوال والإفادات السابقة التي أدلى بها للجنة، مع العلم بأنها كانت تورط السوريين في حادثة مقتل الحريري• وها هو يدعي الآن أنه تلقى رشوة مقابل الإدلاء بتلك الإفادات والشهادات•

وما بين هذا وذاك، إذا بالمحقق الدولي ميليس يقرر رفع يده عن التحقيق، عقب تقديمه تقريره النهائي عما توصل إليه في وقت متأخر من شهر ديسمبر الجاري• وفيما لو انسحب ميليس، فسوف تنشأ صعوبة عملية في إيجاد بديل آخر له، على الرغم من رغبة الحكومة اللبنانية في تمديد صلاحية وتفويض اللجنة لستة أشهر إضافية• هذا ومن المفترض أن يمثل خمسة من مسؤولي الأمن السوري أمام لجنة التحقيق في فيينا، اليوم الخامس من ديسمبر، على أنهم منحوا ضمانات بعدم تعرضهم للاعتقال أو الاحتجاز فيما يبدو• ولا تشمل الشخصيات الخمس التي ستمثل للتحقيق، اثنين ممن يعدون في قلب ومحور النظام السوري، هما ماهر الأسد، الشقيق الأصغر للرئيس بشار الأسد، ولا صهره الجنرال آصف شوكت، رئيس الاستخبارات العسكرية• وعلى الرغم من أن النسخة الأولى من تقرير اللجنة، كانت قد أشارت إلى اسميهما من قبل، إلا أنهما لم يعودا مطلوبين للمثول أمامها فيما يبدو•
ولئن كانت سوريا قد استطاعت التقاط أنفاسها على الأقل، من هذه القبضة الدولية الخانقة التي طوقت عنقها خلال الفترة الماضية، فإن ذلك إنما يعود إلى ثلاثة عوامل، كان لها دور في التخفيف من حدتها• أولها المناهضة القوية لبعض القادة العرب المهمين -وعلى رأسهم العاهل السعودي الملك عبدالله والرئيس المصري حسني مبارك- لكل ما من شأنه أن يزيد من قلاقل المنطقة وزعزعتها أمنياً• وثانيهما استفحال المواجهة والمعارضة الداخلية التي يجابهها الرئيس بوش بسبب حربه على العراق• وثالثاً وأخيراً، حمى الضعف السياسي التي ألمت بالرئيس الفرنسي شيراك مؤخراً•

وفي غضون ذلك -وبعيداً عن الرقابة والأضواء الصحفية التي خطفتها الأزمة السورية- فقد عكفت دمشق على تنفيذ برنامج إصلاحات اقتصادية، تحت توجيه ورعاية الدكتور عبدالله الدردري نائب رئيس الوزراء السوري للشؤون الاقتصادية، مع العلم بأنه تلقى دراسته في علوم الاقتصاد ببريطانيا، وأنه يحظى بكامل دعم الرئيس السوري بشار الأسد• وقد شملت خطة الإصلاحات هذه، سن تشريعات استثمارية جديدة أكثر سهولة ويسراً، فضلاً عن إصلاح العملة السورية نفسها، بحيث يكون هناك سعر صرف موحد لليرة السورية اعتباراً من شهر يونيو المقبل ،2006 وتعزيز مساندة البنك المركزي للقطاع الخاص، بما في ذلك البنوك وشركات التأمين الخاصة، علاوة على التخلص من الشركات والمؤسسات الحكومية المفلسة، إلى جانب إنشاء الجامعات الخاصة وعدد من المناطق الصناعية، وصولاً إلى تعزيز البنية التحتية التنموية في مجملها• وبكل ذلك إنما يطمح الدردري إلى إحداث تحول نوعي في الاقتصاد السوري، بحيث يكون اقتصاد سوق بمعنى الكلمة، بحلول عام 2010 .

والقصد من كل ذلك هو جذب الاستثمارات الأجنبية والعربية لسوريا• هذا وقد حصل الدردري على مبالغ تشجيعية استثمارية مغرية بقيمة 6 مليارات دولار، من كل من دولة الإمارات العربية المتحدة والصين وألمانيا• غير أن سوريا تعاني من مشكلة مصداقية عويصة• ومع استمرار هذه المشكلة، فكيف يتسنى للدردري المضي في خطى تنفيذ إصلاحاته هذه، مهما خول له من مكامن قوة وصلاحيات• وتتلخص هذه المشكلة في أن دمشق لا يزال ينظر إلى نظامها، على أنه نظام قابض ومحتكر للسلطة والثروة• وعلى أية حال، فإنه لم تبدر بادرة واحدة حتى الآن، تشير لاستعداد النظام السوري، لإرخاء قبضته والانفتاح أمام المجتمع المدني، بما في ذلك بالطبع وفي مقدمته، تحسين سجله في مضمار حقوق الإنسان، وتقليص السلطات والصلاحيات الكبيرة التي تتمتع بها أجهزته الأمنية، ووضع حد لحالة الطوارئ المفروضة والمستمرة، إلى جانب إطلاق المزيد من حقوق وحرية التعبير والتنظيم والاجتماع• وفي وسع كل هذه الإجراءات الأخيرة -فيما لو اتبعت- أن تساعد كثيراً في تعزيز الجبهة الداخلية، بل وربما تستقطب دعماً خارجياً كبيراً للنظام الحاكم في دمشق•