وسام سعادة (السفير)

لن تتوقف عملية التحقيق الدولي سواء تنحّى ديتليف ميليس أو لم يتنحّ. وأياً يكن من شيء، جاءت نية ميليس المعبر عنها بإمكان التنحي لتثبت أنه كان ثمة مسعى لتسييس عمل الفريق الدولي، فإن هذا النوع من التسييس يصب حتماً في اتجاه تقنين الضغط على سوريا بدلاً من زيادة الاحتقان، علماً أن تقنين الضغط على سوريا لا يعني بأية حال من الأحوال رفع الضغط، أو التمهيد لغض الطرف عن النظام، قياساً على الحال الليبية، وانما يعني الأمر بكل بساطة وجوب أن يتحكم الضغط الدولي بنفسه وأن يضبط التوقيت الاقليمي على ساعته، وهو أمر تترتب عنه في كل مرة تضحيات مزيدة من مجتمع تتهدده إمكانات الانقلاب على الانتعاشة الديموقراطية التي أوجدتها انتفاضة الاستقلال.

من اختار الديموقراطية اختار معها <<السياسة>>. وبالتالي فإنه يدرك تماماً أنه لا يتفرد بوضع قوانين اللعبة ولا في تسمية اللاعبين الآخرين، فكما يضبط الضغط الدولي توقيت دمقرطتنا وعدالتنا على ساعته، وجب السعي لتقريب التوقيتين ما أمكن، وللتأقلم في كل الحالات. فحين لا ينبغي الاستعجال واستباق الضغط الدولي يمكن بذل الجهود المتاحة للتمهيد والاستعداد. أما حين تأتي الساعة المرجوة، فينبغي عندها التخلف عن الايقاع لسبب أو لآخر، خصوصاً اذا ما كان السبب <<أخلاقياً>> مرهفاً من نوع التضامن مع أي ديكتاتور في العالم حالما ينوجد في محنة، في حين تقابل <<المقابر الجماعية>> بالتشكيك والأسف.
ينبغي أن يخرج الديموقراطيون من عقدة الشعور بالذنب حينما يتحسسون الضغط الدولي، فإن لم يتحركوا على إيقاعه، فمتى ينبغي لهم أن يتحرّكوا، ساعة تكون الأنظمة السلطوية مرضياً عنها، وقادرة على التنكيل والبطش؟ في الوقت نفسه، ينبغي أن يتحاشى هؤلاء الديموقراطيون أجواء الغمّ والسأم حين يقنن الضغط الدولي أو تتباطأ حركته، لأنها السياسة وواجبهم هو إتقان فنونها لا العدول عنها بلعن الامبريالية.

وأعظم فنون السياسة في زماننا تلك التي يمكنها أن تمنح الديموقراطيين على امتداد العالم فرص تنويع مصادر الضغط الدولي وترشيد آليته، بلورة للقانون الدولي والمؤسسات الدولية. لن يؤدي تنويع مصادر الضغط الدولي الى تنزيهه أو جعله مترفعاً عن سياسات الاقتدار والمصالح الاقتصادية، فبعد كل شيء، انتهى الاستعمار، إلا أن الامبريالية ما زالت حية ترزق، ليس لأنها مرحلة <<معاناة>> كوني تسبق التحرر الانساني الأخير، بل لأنها، بكل بساطة، متساوقة مع الرأسمالية والحروب. الامبريالية هي العلاقة التي تنميها الرأسمالية مع الحروب. ليس ثمة علاقة جوهرية بين الامبريالية والاستعمار. وليست الامبريالية هي الوجه الأوحد للرأسمالية. ثمة فارق كبير بين آلية التوسع الرأسمالي، أي واقعة التوسع التاريخي لدائرة الديموقراطيات الليبرالية الغربية، وبين آلية التوسع الامبريالي، من حرب ونهب. من السذاجة للغاية، التوهم أن الشعوب في العالم تختار أحد التوسّعين على هواها، لكن السذاجة الكبرى، الأكثر عقماً، هي التي تنفي التوسع المستمر لدائرة الديموقراطيات الليبرالية.

حيال هذه الطبيعة المزدوجة للغرب، العالم الحرّ الذي هو هو العالم الامبريالي، ثمة إمكان كبير للفعل السياسي الديموقراطي، شرط الاقلاع عن رؤية <<استعمار>> قادم من جديد. في الماضي، كنا نقاتل المستعمر في بلادنا، أما اليوم فإن أبناء جلدتنا يوقعون به في نيويورك ومدريد ولندن، وينتفض المغاربة عليه في ضواحي باريس. وفي الماضي، كانت المطالبة بانسحاب المستعمر البريطاني من العراق، أما اليوم فلا يمكن القبول لا بوجود القوات الأميركية في العراق ولا برحيل هذه القوات الآن. كذلك الأمر، في حال لبنان، لا يمكن القبول بأن تحشر السفارة الأميركية أنفها في كل شيء، ولكن ماذا لو انكفأ <<العالم الحر>> ونسي البلد مرة أخرى؟ خير الأمور أن لا يضعنا العالم الحرّ في باله أكثر من اللازم، وأن لا تنسانا الامبريالية أبداً. لسنا في مفاضلة عبثية، وانما هكذا هو الواقع، كل واقع، ينبني على الندرة وينفتح على الرجاء، وينبغي التعامل مع كل ندرة بالترشيد والاقتناص والاقتصاد.