الحياة حازم صاغيّة

ليس واضحاً تماماً ما اذا كان عمير بيرتس يعاكس التيار، أم يسلك طريقاً التفافية طويلة توصله الى مراده؟ فمعاكسة التيار لا تخفي علاماتها، وأولاها أن الرجل يعيد الاعتبار الى الحزبية والقيم والبرامج. يحصل هذا فيما الحزبية الانتخابية تطغى طغياناً دل عليه انشقاق شارون عن «ليكود» وتأسيسه حزباً انتخابياً (كاديما)، وخروج بيريز من «العمل» وتأييده شارون بعد خسارته المواجهة في حزبه. ثم ان القائد الجديد لـ «العمل» يتقدم كمعبّر اشتراكي ديموقراطي عن الشرائح الدنيا والوسطى من الطبقة العاملة، وكمدني يتولى القيادة في حقبة يسمها «الجنرال» شارون بميسمه.

أما صدوره عن الشرقيين (السفارديم) فربما كان أقل معاكسة للتيار، نظراً الى أن هؤلاء يوالون، منذ سنوات، صعودهم في اسرائيل. ففي ليكود يتعرض اليوم نتانياهو لمنافسة شالوم التونسي الأصل، وموفاز الايراني الأصل. وحتى في «العمل»، القلعة المنيعة للغربيين (الاشكناز)، كان قد تولى القيادة لفترة وجيزة العراقي الأصل بنيامين بن اليعازر.

لكن المؤكد ان أبرز علامات معاكسة التيار اصطدام بيرتس بالظرف السياسي الراهن، دولياً واقليمياً. فهو يذهب يساراً فيما يغدو شارون وحزبه الجديد وسطاً، بينما تتململ تحت سطح الحياة السياسية التأثيرات الراديكالية للبوشية والاستيطان وبناء الجدار، فضلاً عن «حماس» و«الجهاد» مما قد تؤجّجه عملية نتانيا الأخيرة. وتترتب، بالتالي، على معاكسة التيار مخاطر قد تنهي بيرتس تكراراً أشد مأسوية لتجربة عمرام ميتسناع قبل ثلاثة سنوات، أو ترسّخ اسمه كمجرد نقابي شعبوي آخر. وربما كان أبرز المخاطر أن يحجم الشرقيون عن تأييده بسبب حزبه الغربي، فيما يحجم الغربيون عن تأييده بسبب أصله الشرقي. وهذا فضلاً عن توقعات يذهب بعضها الى أن المهاجرين الروس لا يثقون بيهودي مغربي الأصل، وقد يتخوف المعسكر الديني من عضويته في «السلام الآن».

والحال ان الرجل أرفق صعوده السياسي بتجانس نظري يصعب القول ان الوعي السياسي الراهن في اسرائيل قابل للارتقاء اليه. فعنده، كقائد للهستدروت، ان الحكومات المناهضة للسلام انما تنفق على المستوطنات أموالاً تقتطعها من التنمية وتوفير فرص العمل، وان العداء للفلسطينيين، حسب صياغة يوسي ألفر، الأفيون الذي يلقيه اليمين للجماهير بهدف تخديرها. وهي لغة من الواضح اصطدامها ببارونات حزب العمل أنفسهم ممن بدأوايشحذون سكاكينهم موجّهين شفراتها الى عنق القائد الجديد. بيد أنها تصطدم ايضاً بالتفاوت الأهلي الذي قد يستحيل ضبطه على إيقاع وطني – طبقي مستوٍٍ ومتماسك.

لكن هذا جميعاً لا يلغي احتمال الطريق الالتفافية الطويلة التي تشكل نهايتها رداً على المسار الذي بدأ عام 1977، موصلاً «ليكود»، للمرة الأولى، الى السلطة. فالرهان الكبير على مصالحة الشرقيين وحزب العمل، ومن ثم رفع السجال الى سويّة المصالح، لا يفتقر الى مبررات ومرتكزات. وقد تكفلت السياسات النقديّة التي اتبعها نتانياهو، كوزير للمال، تعميق الفوارق الاجتماعية على نحو غير مسبوق. فالعاطلون عن العمل وأصحاب المداخيل المنخفضة والمتقاعدون والأمهات المطلقات - وكثيرون منهم صوتوا قبلا لليكود - يشعرون اليوم بأن من مثّلهم خان مصالحهم، موغلاً في فساد لم تعهده من قبل الحياة السياسية.

كذلك تشي التحولات الديموغرافية والصعوبات السياسية بإجهاض فكرة «اسرائيل الكبرى». وهنا يقيم المعنى الأعمق لتراجع ليكود الكبير بعد إقدام حكومة ليكودية على إجلاء 21 مستوطنة في غزة (و4 في الضفة). لا بل ينمّ تاريخ الحزب-االائتلاف، منذ نشأته في 1973، عن قابلية ضخمة للتفكك مع كل ارتطام بالواقع: فبعض ايديولوجييه من عتاة القوميين انشقوا عنه في 1979، حين عقد بيغن سلامه مع مصر، وتمرد آخرون في 1997، عندما سلّم نتانياهو السلطة الفلسطينية معظم أراضي الخليل، ثم كان الانسحاب من غزة وذيوله المعروفة. وعلى رغم التشاؤم المشروع الذي يحيط بالنشاط السلمي، يستحيل القفز عن وقائع بينها تراجع العنف الفلسطيني من غير ان يختفي، ومن ثم بدأ يتقوّض الأساس الذي نهض عليه يمين اليسار ممثلاً ببيريز والتحاقه، تالياً، بشارون.

وربما راهن بيرتس على ان الوضع الدولي لن يبقى على حاله، بل ان الادارة الاميركية الحالية لم تستطع التعايش مع الجمود القائم فأقدمت، هي نفسها، على ممارسة الضغط الذي فُتح بنتيجته معبر رفح. أما كون الاحزاب الانتخابية المعارضة لا تعمر طويلاً - وآخر الأمثلة شينوي الذي نال 15 مقعداً في انتخابات 2003 - فسبب آخر لارتفاع المعنويات.

وقصارى القول ان خيار بيرتس الصعب يقوم على احترام السياسة واحترام شعبه واحترام السلام. فهل تكون المواقف النبيلة هذه في محلها؟