سركيس نعوم (النهار)

تعرض ديتليف ميليس رئيس لجنة التحقيق الدولية في اغتيال الرئيس رفيق الحريري منذ بدئه العمل قبل اشهر وبعدما اوصى القضاء اللبناني بتوقيف القادة الامنيين الاربعة في لبنان، واخيرا بعد اصداره تقريره الشهير غير الاجرائي قبل اسابيع، لانتقادات كثيرة بل لحملات سياسية واعلامية منظمة من جهات لبنانية عدة معظمها، ان لم يكن كلها، على علاقة تحالف وتنسيق كبيرين مع سوريا. فحينا ينفذ هذا القاضي الالماني المعروف بحرفيته سياسة الولايات المتحدة هي المعادية للبنان ولسوريا وللعلاقة الاستراتيجية بين الاثنتين ولكل الامة العربية. وحينا آخر ينفذ تعليمات "الموساد" وهو احد ابرز اجهزة الاستخبارات في اسرائيل مغتصبة حقوق الشعب العربي الفلسطيني ومحتلة اراضي دول عربية عدة والعاملة في استمرار على زرع بذور التفرقة والتقسيم والتفتيت داخل كل دولة عربية وبذور الخلافات والانقسامات بين الدول العربية، وفي الوقت نفسه ابقاء المجتمع الدولي بزعامة الغرب الاوروبي ولاحقا الغرب الاميركي في موقع الخائف من العرب والساعي دائما الى منعهم من تحقيق آمالهم القومية وطموحاتهم. وحينا ثالثا يقع القاضي الالماني نفسه ضحية اغراءات المجتمع المخملي اللبناني فيقبل دعوات للغداء والعشاء في مطاعم فخمة وعلى اليخوت الامر الذي يلطخ سمعته ثم يدفع الى الشك في عمله بل في صدقيته من اساسها. وحينا رابعا واخيرا يضع هذا القاضي نفسه في تصرف الجهات اللبنانية المتنوعة المتنقلة لـ "الصاق" تهمة قتل الحريري بسوريا وحتى بحلفائها في لبنان والقادرة بسبب امكاناتها الهائلة على "تركيب" الادلة والبراهين والقرائن المثبتة هذه التهمة وتالياً على اقناعه بها وعلى اعتبارها اساسا في عمله التحقيقي.

الا ان السيل المتدفق المشار اليه من الانتقادات والحملات توقف او بالاحرى خف بعدما اعتبر اصحابها ان التحقيق الدولي في اغتيال الحريري فقد صدقيته ومعها ادلته والبراهين والقرائن عقب انتقال "الشاهد المقنع" هسام طاهر هسام أو نقله لا فرق، من بيروت الى دمشق واقدامه منها على توجيه الاتهام بالتلفيق وبتعمد استهداف سوريا الى اللجنة بمحققيها ورئيسها والى الغالبية النيابية وعلى رأسها "تيار المستقبل".

وحلّ بدلاً منه موقف آخر متعاطف مع ديتليف ميليس او بالاحرى مقدر لظروفه ومعترف بكفاءاته وصفاته الحميدة، فهو عند البعض منهم تراجع ضمنا عن كل "ارتكاباته" عندما قرر الاعتذار عن متابعة مهمته رئيسا للجنة التحقيق بعد انتهاء عقده مع الامم المتحدة في الاول من كانون الثاني المقبل. وهو عند البعض الاخر منهم صار "آدمي" بعد قراره المذكور. وهو عند البعض الاخير منهم صار حكيما اذ رفض ان ينفذ لعبة الآخرين في الداخل والخارج من المعادين للبنان وسوريا بل للعالمين العربي والاسلامي.

ما هي اسباب هذا التغيير المفاجىء في الموقف من رئيس لجنة التحقيق الدولية ديتليف ميليس؟

طبعا لا احد يمتلك معلومات جازمة عن هذه الاسباب تماما مثلما لا يمتلك احد معلومات جازمة ودقيقة عن اسباب القرار الذي اتخذه ميليس بالاعتذار عن متابعة مهمته التحقيق بعد انتهاء عقده المتعلق بها مع الامم المتحدة، علما ان الاسباب التي اوردها عدد من المطلعين وخصوصا في عاصمة الامم المتحدة نيويورك قد تنطوي على شيء من الوجاهة. وفي غياب المعلومات تصبح الاولوية للتحليل غير المنطلق من فراغ طبعا بل من المناخ الذي ساد البلاد بعد اغتيال الحريري والتطورات السياسية المحلية والاخرى الاقليمية، وابرزها السورية. وهذا التحليل يشير اولا الى ان المناخ العام في لبنان او شبه العام يشير الى مسؤولية مشتركة للنظام الامني اللبناني الذي سقط قسم منه ولا يزال قسم آخر منه متمسكاً بمواقعه، وللنظام السوري المسيطر عليه والحاكم لبنان بواسطته ومن خلاله وكذلك عبر حلفائه اللبنانيين ووجود جيشه على اراضيه حتى 26 نيسان الماضي. ويشير ثانيا الى ان توصل لجنة التحقيق الدولية الى ما يجعل المناخ المذكور حقيقة واقعة، راسخة "بالظن" طبعا، في انتظار نتائج المحاكمة التي يفترض ان تفصل في هذا الامر من شأنه ان ينهي سياسيا طبعاً الحلفاء غير الكبار لسوريا في لبنان وان يضع في موقع دفاعي الحلفاء الكبار والاقوياء. ومن شأنه ايضا الانعكاس سلبا على سوريا. ويشير ثالثاً الى ان المصلحة المشتركة لسوريا وكل هؤلاء تقضي ببذل كل الجهود اما لافراغ التحقيق من جدواه واما الى "تمويته" واما للافساح في المجال امام توصل المجتمع الدولي وتحديدا زعيمته اميركا وسوريا الى تسوية او "صفقة" بالمفهوم اللبناني تحصر الاضرار عن الاخيرة وعن حلفائها اللبنانيين.

في اي حال قد تطرأ في الايام والاسابيع المقبلة تطورات معينة توضح فعلا اسباب قرار ميليس الاعتذار عن متابعة المهمة، سواء نفذ هذا القرار او عاد عنه. وتوضح ايضا اسباب تبدل رافضي تدخل المجتمع الدولي في جلاء حقيقة قتل الحريري وفي مساعدة لبنان على استعادة نفسه ومقوماته الوطنية. لكن ما يهم في هذه المرحلة هو امتناع اللبنانيين، على تضارب انتماءاتهم المتنوعة، بل على تناقضها، عن ادخال عواطفهم ومصالحهم في عمل اللجنة لان تركيبة لبنان المعقدة والمتعددة لا تسمح لفريق بان يوظف التحقيق ونتائجه في تثبيت نفسه على حساب الافرقاء الآخرين ايا تكن نتائجه. وما يهم ايضا هو اقتناع سوريا بان عقول اللبنانيين ليست ضد "صفقة" او تسوية بينها وبين المجتمع الدولي، شرط الا تكون على حساب الحقيقة والعدالة في اغتيال الحريري، والحقيقة والعدالة نسبيتان دائما. والا تكون ايضا على حساب وطنهم ودولتهم الحرة والسيدة واستقرار شعبهم، علما ان القلوب بما تختزنه من عواطف قد يكون لها موقف آخر نابع من التمنيات اكثر مما هو نابع من المصالح الحيوية للشعب والبلاد. وما يهم اخيرا هو ان تعيد سوريا وحلفاؤها اللبنانيون الاعتبار لحس "التوقيت" اي توقيت المواجهة وتوقيت التسوية وتوقيت المناورة لكسب الوقت، ذلك ان لكل من هذه الامور ظروفها والا يبخسوا الاخرين، وهم هنا المجتمع الدولي والمجتمع العربي، قدرهم فيقعون في المبالغة وتاليا الاخطاء. ومن يرى منذ ايام ما يجري في ما سمي "مقابر جماعية" في منطقة عنجر، وهو امر معروف منذ 1999 لدى كثيرين من اللبنانيين والاجانب، يعرف ان هناك منازلة غير مباشرة قائمة بين سوريا والمجتمعين المذكورين، فالدولي لا بد ان يفتح ملفا كلما رأى ان سوريا غير جادة في التعاون الذي يمكن ان يؤدي بعد اكتمال التحقيق الى تسوية. والعربي قد لا يقدم مستقبلا على توظيف "رصيده" لدى الدولي وتحديدا لدى اميركا من اجل سوريا اذا لمس انها تناور عليه.

في اختصار لم يعد ممكناً للبنان ولسوريا ولحلفائها اللبنانيين تجاوز اغتيال الرئيس الحريري اذ ربما يكون صار "البوابة" التي لا بد ان تدخل منها التسويات او المواجهات او الفتن او الحروب. الا اذا كان هناك من يعتقد ان الحريري انتحر بطن من المتفجرات لايقاع اخصامه المحليين والاقليميين في التهلكة، وان التطورات قد توصل اللبنانيين والمجتمعين العربي والدولي الى الاقتناع باعتقاد كهذا.