أنور بيجو

بداية نؤكد على أن طرح موضوع أية ظاهرة ، لا يعني أن هذه الظاهرة معممة بشكل مطلق ، لكن يعني هذا ، أنها الظاهرة الأكثر شيوعاً ، وأحياناً تكاد تلامس حدود المطلق .

و ( الفلاش ) ، هذا الجهاز الوامض والمضيء بقوة ... صحيح أن ومضته شديدة ، لكنّ مدتها هو جزء من الثانية فقط . لذلك يسجل ( الفلاش ) بوضوح تام المشهد ... لكنه المشهد الحاصل في ذلك الجزء من الثانية ، ولو فرضنا – وهذا افتراض ممكن جداً – وجود فتاة جميلة الوجه وهي مغلقة الفم ، فإذا فتحت فاها وبانت أسنانها وخاصة أنيابها ، ذكّرتكَ بمصاصي الدماء ، عندها ينحدر جمالها مسافات بعيدة ، وعندها يأتي دور صياّد ذلك الجزء من الثانية ، فيستطيع إطلاق ( فلاشه ) صوب تلك الفتاة في ذلك الجزء من الثانية الذي يكون فيها فمها مغلقاً ، فيظهرها بأبهى صورة ، لكن بالمقابل يستطيع أن يقنص الصورة في الجزء من الثانية الذي يكون فيه فمها مفتوحاً ، فيظهرها بأقبح صورة .

قناص التزوير ، يطلق على جسد التاريخ من ( فلاشه ) العزيز تلك الومضة ... فيوقف الزمن ، يختزل وقائع التاريخ ، ويعطي معنى للتاريخ هو معنى ذلك الجزء من الثانية ، والأخطر أنه يستطيع بـ ( فلاشه ) هذا ، أن يعطي لنفس الموضوع قياسين متناقضين : جميل أو قبيح ، أو حقيقتين متناقضتين : حي أو ميت .... وهكذا

بقدر ما يكشف ( الفلاش ) حقيقة جمود اللحظة ، بقدر ما يخفي حقيقة حركة التاريخ ، ففرح المدعوين من العريس بعرس ذلك العريس ، كونه احترمهم ودعاهم ، لا يعبّر بالضرورة وبأي شكل من الأشكال عن علاقة المدعوين ببعضهم ، تآلفاً أو تنافراً ، تحاباً أو كرهاً ، صداقة أو خصومة .....

الاحتفالات .. المهرجانات .. المسيرات .. ( خيمات ) الوطن .. أيام العمل ( التطوعي ) .......... كل هذا جميل ، بل ومطلوب ، وله فوائده ومحاسنه الكثيرة ، ولا يمكن طلب الاستغناء عن هذه المظاهر .... ، لكن اعتماد هذه ( اللقطة ) ( فقط ) في قراءة الواقع على أنه بخير ، ويسير إلى خير أكبر ، ثم يجري ذرف ( دموع الفرح ) بسبب هذه اللمّ من الأعداد ، هو استثمار – بافتراض حسن النوايا – غير عملي لتوظيف المشاعر المُثارة في الاحتفال / المهرجان / المسيرة ......... يجب أن نسأل عن السلوك والأفعال قبل القدوم إلى الخيمة أو الاحتفال أو المهرجان .... ، وكذلك بعد المغادرة !!

ليس من سوري في الشام ، حين تتعرض سوريا للضيّم ، إلا وهو مستعد لبذل كل غال وثمين من أجل سوريا ، فكيف إذا كانت المشاركة في خيمة وطن .... وليس من حزبيّ ، حين يحتفل حزبه بذكرى استشهاد أو بذكرى تأسيس أو بمهرجان لغيرها من المناسبات ... ، إلاّ وهو مستعد ليعطي لهذه ( الذكرى ) حقّها كمحطة أصيلة من وقائع تاريخ حزبه وتاريخ وطنه ...... لكن ، كيف يساهم المواطن عموماً ، والحزبي خصوصاً ، كيف يساهم عملياً وبصورة حسيّة ملموسة ، في مواجهة هذا الضيْم ، والأهم كيف يردّ هذا الضيم عن وطنه ، وكيف يستطيع تحويل الذكرى ودموع الفرح ، إلى فاعلية حقيقية يشار إليها بالأرقام لا بالأوهام ، يشار إليها بالتعيين الذي هو شرط الوضوح ، لا بالتخمين الذي هو أساس كل غموض وبلبلة .

لا يجب بأي شكل من الأشكال ، أن تعتبر ( الخيمة ) أو الاحتفال أو المهرجان إنجازات ، بل هي تعبير عن حصول الإنجازات وعن تحققها لا عن تمنّيها .... وما يثير القلق هو أن يكون غير ذلك ، أن يكون تغطية للعجز المزمن عن تحقيق ما هو عملي وفعّال ومنتج ، ما يثير القلق هو أن يستخدم ( الفلاش ) في التعمية لا في الكشف ، ما يثير القلق هو أن يترك ( الفلاش ) انطباعاً مؤذياً في شبكية العين عن لحظة ( مقنوصة ) ..... هذا ما يثير القلق ، لكن ما يؤكد القلق ، هو عدم وجود الإنجازات الحقيقية المثيرة لدموع الفرح ......

قول الحقائق كما هي ، ومهما كان مؤلماً ، هو تعبير عن الحس بالمسؤولية وعن الإخلاص ، أمّا ادّعاء الأوهام ، ومهما كان ( مفرحاً ) ، فهو تعبير عن ( الاتكالية ) وعن الإفلاس .

ليس في علم الإدارة والاقتصاد تعبيرات من مثل ( كان الإنتاج هذا العام جيداً ) ، هذه تعبيرات تعني عدداً من التقديرات لا يمكن إحصاؤه ، كما أن هذه التقديرات نفسها تتغير بتغير الظروف ، لكن إن قيل ( بلغ الإنتاج هذا العام ما قيمته مثلاً خمسة ملايين ليرة ) فلا يمكن بحال من الأحوال أو بظرف من الظروف إلا أن يكون التقدير واحداً ...... وفي عمل المؤسسات ، المؤسسات المسؤولة عن الوطن وخاصة عن مصير الوطن وأبناء الوطن ، المؤسسات المسؤولة عن جدوى المقاومة والمواجهة ، عن جدوى التصدي لمن يضمر أكبر الشرور لسوريا ، هذه المؤسسات ، يجب أن تسجل إنجازاتها بالأرقام .... لا بدموع الفرح .