الدستور، صلاح الدين حافظ

على غير العادة والمتوقع، فإن شتاء سوريا لم يبدأ بعد حتى الآن، رغم أن كل المؤشرات المناخية تقول إن فصل الشتاء قد بدأ، وأن الثلوج على وشك أن تعمم قمم جبل ’’قاسيون’’ ليحيط دمشق الفيحاء بهالة بيضاء، تأخذ من هامة جبل الشيخ بعضا من مؤثرات ثليجها الدائم! تتزامن هذه الأيام ارتفاعات غير عادية في درجة الحرارة المناخية والسياسية على السواء، فتضفي على الشعب السوري العربي الأصيل، حرارة إضافية، بل وقلقاً و توتراً لا تنكره العين الفاحصة، فثمة ضغوط هائلة تحاصر سوريا من كل حدب وصوب، وثمة تهديدات عديدة تتوالى عليها دولياً وإقليميا، تسبقها وربما تمهد لها تحذيرات عربية متسارعة .. أصحاب التحذيرات من العرب العاربة والمستعربة، يقولون إننا نخاف على سوريا من مصير العراق، فالتهديدات الأمريكية والغربية ’’ والإسرائيلية أيضا’’ ضد سوريا اليوم، لا تقل شراسة عن تلك التي ظلت توجه للعراق، على مدى عامي 2001/،2002 فلما لم يمتثل صدام حسين ولم يرضخ، وقعت الواقعة ونزلت القارعة ... ولا نريد لسوريا ما حاق بالعراق ولا يزال !! وقائمة الاتهامات التي تحملها الإدارة الأمريكية وصقورها من المحافظين الجدد عشاق الحرب والضرب والكرب، باتت معروفة ومعلنة، ابتداء من طلب التعاون السوري الكامل مع الجيش الأمريكي الذي يحتل العراق، لضبط الحدود، وانتهاء بالصلح مع إسرائيل، مروراً بالطبع بقطع العلاقة السورية الاستراتيجية بإيران وحزب الله اللبناني، وطرد الفصائل الفلسطينية المعاندة ... الخ . ورغم اننا لم نتيقن بعد من هوية الطرف الذي اغتال الشهيد رفيق الحريري رئيس وزراء لبنان الأسبق، في فبراير الماضي، إلا أن أصابع الاتهام توجهت مباشرة إلى المخابرات السورية دون غيرها، رغم أن أطرافاً أخرى لها مصلحة ويمكن أن توجه لها الاتهامات ، ولذلك أصبح تقرير لجنة ’’ميليس’’ واتهامات ميليس وشكوك ميليس، هي الهراوة الصلبة التي تدق فوق الرأس السورية بانتظام وتتصاعد باستمرار ، ليس بهدف كشف لغز اغتيال الحريري فقط، ولكن بهدف تقديم هذه الرأس السورية للمقصلة الدولية وفق قرارات مجلس الأمن ! ولا أظن أن النظام السوري الحالي الحاكم منذ عام 1970 عبر مرحلة الرئيس الأب حافظ الأسد’’1970 ــ 2000’’، ثم عبر الرئيس الابن بشار الأسد ’’ 2000 ــ 2005’’ قد دخل في مأزق إقليمي و دولي بالغ التعقيد مثل الذي يحاصره الآن، حتى مأزق احتلال الجولان الممتد من عام 1967 حتى الآن، قد تناساه كثيرون لأسباب عديدة وحجج متراكمة، ولذلك فإن دمشق على سبيل المثال تبدو اليوم هادئة كعادتها، لا يعكر صفوها المعهود، سوى المظاهرات الموجهة والاعتصامات المنظمة تعبيراً عن رفض التدخلات والتهديدات الأمريكية، وهي ــ المظاهرات الواسعة ــ أهم الأسلحة التي يلتحف بها النظام الآن، جنباً إلى جنب مع الوفود الشعبية العربية التي تصل وتغادر دمشق ، معلنة تضامنها الحقيقي في المأزق الصعب مع الشقيق المحاصر .. بالعقلية الأموية الموروثة لا يقطع النظام الحاكم أبداً شعرة معاوية، مع المجتمع الدولي عموما، بل ومع أمريكا التي تمارس أقسى الضغوط وتبتز سوريا حتى الاعتصار، وفي هذا يقول الرئيس بشار الأسد في حوار صريح ومشوق، مع الأمانة العامة لاتحاد الصحفيين العرب يوم الخميس الماضي بقصر الشعب المطل من علٍ على دمشق، ’’ نحن لا نسعى للمواجهة مع أمريكا ولا نستطيع ولا نسعى لمواجهة مجلس الأمن أو غيره، نحن دولة صغيرة تعرف قدراتها، بل إننا نتعاون في كل ما نستطيع التعاون فيه دون التفريط في كرامتنا، الآن نحن نتمسك بالصمود و نتحلى بالتحمل في حدود قدراتنا ، وقد حدثت معنا مساومات، مثلا حول نزع سلاح حزب الله في لبنان، رفضنا ، ضغطوا علينا لنبتعد عن العراق، ابتعدنا، لكنهم طالبونا بالتآمر على شعب العراق، قلنا هذا ما لا نستطيع ، غضبوا علينا ...’’ على مدى الساعة والنصف، أجاب الرجل على عشرات من الأسئلة المتدفقة ، من أفواه ثلاثة عشر صحفياً مجرباً هم أعضاء الأمانة العامة لاتحاد الصحفيين العرب، ومن بينها أسئلة يراها البعض محرجة كتلك التي وجهتها شخصياً للرئيس، خصوصا حول من قتل الحريري طالما أن سوريا بريئة، ولماذا انتحر غازي كنعان رجل سوريا القوي الذي ’’ حكم’’ لبنان لعقدين متتاليين، ولماذا لم ينفذ الرئيس تعهده بالإصلاح والتحديث وإطلاق الحريات ، الذي طالما تحدث عنه مراراً منذ خطاب القسم عام 2000 حتى الآن، ولماذا لا تزال الصحافة والإعلام السوريان يخضعان للبيروقراطية الحكومية والهيمنة الحزبية ’’ البعثية’’ رغم كل الوعود بإطلاق حريتهما ، ولماذا غاب ربيع دمشق الديموقراطي ! أجاب الرئيس بطريقته، وطلب أن يكون بعض حديثه خاصا وليس للنشر، لكنه في كل الظروف كان حريصاً على الشرح المطول، وعلى الظهور بمظهر الواثق غير الخائف من احتمالات تطور التهديد الأمريكي والحصار الغربي إلى ضربات عسكرية ، فإلى أي جدار يسند الرجل ظهره !! قالت ملامحه فضلاً عن منطوق كلامه ، إنه حزين للموقف العربي ’’ لكن التنسيق دائم بين مصر وسوريا والسعودية ’’، لعبت تركيا دورا مهما ، لكن الدور الأساسي في قضية التحقيق في جريمة اغتيال الحريري وطريقة استجواب السوريين المطلوبين ، لعبته روسيا بتنسيق قوى معنا ، هناك تنسيق قوى لنا مع إيران وحزب الله اللبناني، نحن نمثل ثلاث قوائم للطاولة ، إن سقط احدها ، سقطت الطاولة !!’’ مثل أبيه يجيد الرجل حرفة الكلام والشرح والتفصيل فيما يريده ، ويختصر فيما لا يريد الإفصاح عنه والمسكوت عليه ... وأظن أن المسكوت عنه الذي لا يخضع حتى الآن لمزيد من الشرح والتفصيل ، هو الموقف الداخلي السوري ، وضرورة تحديثه وتطويره ديموقراطيا بإطلاق الحريات ، رغم تقديري للظروف الصعبة التي تحاصر سوريا بالتهديدات الأمريكية والضغوط الخارجية . ومثلما قلنا ونقول في مصر ، قلنا ونقول في سوريا ، التي نحب شعبها العربي الأصيل ، ونقدر دوره الوطني والقومي على امتداد الحضارة العربية والإسلامية ، قلنا ونقول إن المخاطر الخارجية قد تكون عاصفة ، ولكن التهديدات والهشاشة الداخلية مدمرة ، وقلنا ونقول إن ضغوط أمريكا علينا لإجراء إصلاحات ديموقراطية ، لا تعنى أن نكره الديموقراطية و نعادى دعوتها ونصادر حرية دعاتها ، ذلك أن الإصلاح الديموقراطي الحقيقي ’’ وليس الشكلي والمزيف والملون ’’ هو مطلب شعبي وطني قبل الضغوط الأمريكية وبعدها !! ولذلك كان محبطاً لنا ولغيرنا ، أن تذبل سريعا زهور ربيع دمشق الديموقراطي ، وتتحول إلى أوراق خريف باهتة ، ويذكر الجميع أن ربيع دمشق ، انطلق قوياً عفيا بعد تولى الرئيس بشار للحكم ، مطلا على سوريا بوجه شاب وطموح متحضر ، واعداً بنقله موضوعية خصوصا في قضية الحريات الديموقراطية ، من عصر الحزب الأوحد المسيطر على كل شيء ، بصرف النظر عن أحزاب الجبهة الوطنية المشاركة ، التي يعرف الجميع أنها أحزاب كرتونية غير فاعلة ، إلى عصر التعددية الحزبية والانفراجة الديموقراطية ، وحرية الصحافة والرأي والتعبير ، حتى على غرار الهامش المحدود في مصر مثلا..؟ انتعش الربيع قليلا ثم أصيب بالارتجاع ، لأسباب عديدة ، يرى أهل الحكم أن أهمها تكاثر الضغوط الخارجية والعقوبات وخطوات الحصار التي عوقت الإصلاح وعرقلت أحلامه ، ويرى آخرون أن الحرس القديم قد أحبط مخططات الإصلاح التي يقودها الحرس الجديد ، بينما يرى عتاة المعارضين في الداخل وفى الخارج ، أن البعث هو البعث وان النظام هو النظام ، وان الجميع لا يقرأ المتغيرات الداخلية أو الدولية ، وأنهم غير جادين أصلا في الإصلاح أو في التنازل حتى عن جزء صغير من السلطات والامتيازات!! المؤكد أن كل هذه الأسباب والمبررات قائمة فعلا ، فالصورة مكررة في أكثر من بلد عربي والمحاكاة مستمرة ، ولا فضل لعربي على عربي إلا بمزيد من الاستبداد ، غير أن الضغوط المتزايدة على سوريا ، من الخارج ومن الداخل ، تضع سوريا في أكثر الأوضاع حرجا واشد المآزق صعوبة هذه الأيام ، امتداداً للمستقبل المجهول... فقد أضافت الضغوط الأمريكية الشرسة ، إلى قائمة اتهاماتها لسوريا ، الاتهام بانتهاك الحريات وحقوق الإنسان ، وممارسة القهر والديكتاتورية والفساد ’’ وهى تهم جاهزة لكل الأنظمة جنبا إلى جنب مع اتهامات ’’ تشجيع الإرهاب في العراق وفلسطين ولبنان ، والتحالف مع إيران في محور الشر والدول المارقة ، واقتناء أسلحة الدمار الشامل .... الخ’’، وحكاية التحقيق الدولي في جريمة اغتيال الحريري ، وتقارير لجنة ميليس وغيره ، ليست إلا مدفعية صغيرة لإطلاق النار ، تمهيداً للهجوم الكبير ، إن لم ترتدع سوريا وتنصاع !!! ربما يرى كثيرون حرجا في الإلحاح على سوريا الآن لبدء إصلاح ديموقراطي حقيقي ، يتجاوز هذا المأزق ، لكننا نؤمن أن الإصلاح بأيدينا خير من الإصلاح بيد أمريكا ، وان استباق الضغط الأمريكي والابتزاز بورقة الديموقراطية ، هو قطع للطريق على المزايدين والمتربصين ، وهم كثر ، واستجابة صادقة لمطالب شعبية حقيقية تتطلع إلى سوريا جديدة ، تتمتع بالحرية وتنعم بالانفتاح ، فتحافظ على سيادتها وثقافتها واستقلالها وكرامتها ... وغير ذلك يسهل الطريق أمام الضغط الخارجي ، ويمهد السبيل أمام التمرد الداخلي ، خصوصا وان الإرهاب قد عاد إلى سوريا خلال العامين الأخيرين بعد غياب طويل ، كما قال الرئيس بشار الأسد بنفسه ، وان بعض زعماء المعارضة في الخارج ، قد بدأوا يتدربون على ركوب الدبابات الأمريكية ’’ وربما الإسرائيلية ’’ للعودة إلى دمشق ، كما عاد قبل أكثر من عامين نظراء لهم إلى العراق ، فدمروه تدميرا كما يرى الجميع ! ! من موقع المحبة ، لا نريد لسوريا أن تقع في هذا الفخ الشائك ، مثلما لا نريد لسوريا أن تبقى أسيرة الجمود والقلق والتوتر ،الذي يغلى في الأعماق ، حتى وإن غطته مظاهرات التأييد ومسيرات المبايعة وغلالات الهدوء والترقب !!؟