مسيحيو الأغلبية يشبهون مسيحيي سوريا في الحكم وفي الشارع .. والعين على عون

السفير،إبراهيم الأمين

تضج البلاد بأخبار كثيرة عن واقع العلاقات والتحالفات التي يقوم بها <<الفريق المسيحي>> منذ خروج سوريا من لبنان. واذا كان تيار العماد ميشال عون يمثل بفعل الانتخابات وغيرها القطاع الاكبر من الشارع المسيحي، فإن القوى الاخرى انكشفت بعد خروج سوريا على وضعية سياسية وشعبية غير قوية. فالحضور المستجد ل<<القوات اللبنانية>> في الشارع وفي المؤسسات السياسية لا يبدو من النوع القابل للإمساك بحق الفيتو، الامر الذي يجعل البحث حول الموقف المسيحي رهن آلية التفاهم التي ستظل تحت خيمة الكنيسة والبطريرك الماروني نصر الله صفير، ما دام الاخير محافظاً على مسافاته من القوى كافة.
لكن ما الذي يجعل القوى المسيحية خارج دائرة القرار الداخلي الحقيقي؟ وما هو حجم انعكاس الخروج السوري من لبنان على التمثيل المسيحي داخل دائرة القرار السياسي والاقتصادي؟ وما هي الحدود التي تضبط الدور الاقليمي للفريق المسيحي؟
سابقاً، خلال الحقبة السورية، كان ثمة توصيف لواقع القوى السياسية ذات القاعدة الطائفية الصافية، يسمح بالقول بأن سوريا تتصرف بغير قلق إزاء الموقف الشيعي، الى حد القول <<انهم بالجيبة>> وانها تهتم فقط بواقع الآخرين ولا سيما الفريقين السني والمسيحي. وهي عملت وفق استراتيجية كانت نتيجتها إضعاف القوة السياسية للفريق المسيحي، وتمثل ذلك في طريقة اختيار رؤساء الجمهورية والوزراء والادوار الخاصة بكبار الشخصيات المسيحية، وإبراز هذا وإضعاف ذاك. وانها عملت على احتواء الفريق السني بطريقة أو بأخرى، وأخذت هذه العملية وقتاً طويلاً وصراعات لا سيما في الفترة التي تحول فيها الرئيس الشهيد رفيق الحريري الى الرقم الصعب في هذه المعادلة.
دارت الدنيا كما يقولون وخرجت سوريا مقهورة من لبنان، وعادت الولايات المتحدة وفرنسا لتولي دور الوصاية المباشرة على الادارة السياسية للحكم الجديد في لبنان. ويبدو من المعطيات التي تكونت خلال الفترة الاخيرة أن باريس وواشنطن تتعاملان مع الفريق المسيحي على الطريقة السورية، بمعنى انه ليس الهم الاكبر وان المسيحيين <<في الجيبة>> وان العمل يجب أن يتركز على الفرق الاخرى وتحديداً على الشيعة وعلى السنّة (ومعهم الدروز)، ما يعني أن عناصر القوة لدى الفريق المسيحي ستظل رهن حاجة الغرب الى استخدامه كورقة ضغط بوجه الآخرين، أو قدرة هذا الفريق على انتزاع مساحة مستقلة تتطلب مغامرة لم يقم بها الشيعة في عز الحقبة السورية، وهي التي تتطلب انتزاع مسافة على قاعدة العلاقة النقدية، لكن الفرق بين الحالتين، أن الشيعة قايضوا تفويض سوريا في إدارة التفاصيل المحلية بدور إقليمي جرى العمل على صياغته بهدوء، ما جعله الدور الابرز والاكثر فعالية بين أدوار الاطراف الاخرى، بينما يقف المسيحيون اليوم كقوة تعطيلية تمنع الانتخابات الرئاسية من جهة، وتحول دون صياغة جبهة داخلية قادرة على إنتاج تفاهم لبناني لبناني جديد من جهة اخرى.
من جانب سلوك فريق الاغلبية الحاكمة اليوم، لا يبدو أن لدى النائب سعد الحريري أو النائب وليد جنبلاط ما يدفعهما الى التعامل مع <<الشريك المسيحي>> على أنه قوة فاعلة قادرة على قلب الطاولة أو خلاف ذلك، وعندما جاء الاستحقاق الانتخابي ثم استحقاق تأليف الحكومة، ليظهر أن التمثيل المسيحي إما أن يكون قوياً ولكن بثمن سياسي كما هو العماد عون، وإما أن يكون بلا وزن كما هو الاختيار الذي تم من قبل لوائح الاكثرية في المجلس وفي الحكومة.
ومع أن فريق الاغلبية حاول توفير مظلة داعمة لهذا الشريك أو رافعة سياسية في أكثر من مكان، فإن التطورات تظهر أن بقايا <<قرنة شهوان>> وحتى <<القوات اللبنانية>> لن يقدرا على احتلال مواقع أكثر نفوذاً في الشارع من المواقع التي احتلها حلفاء سوريا من المسيحيين في الفترة السابقة، برغم وجود اختلاف حقيقي في طبيعة الشخصيات والقوى وحجم تمثيلها في الشارع، لكن الفعالية على المستوى الشعبي من جهة وعلى مستوى اتخاذ القرار في المؤسسات الرسمية بقيت دون <<خط الفقر>> الذي استقر فيه حلفاء سوريا من المسيحيين طوال 15 عاما... ولا حاجة لتذكير أحد بأن أي توافق يتم بين الشيعة والسنّة ومعهم الدروز من شأنه تحويل ما هو متفق عليه الى برنامج عمل يسير بقوة واندفاعة.
وعليه، فما الذي يمكن أن يحصل الآن؟
من جانب <<القوات اللبنانية>> ثمة سعي من جانب قيادتها التي عاد الدكتور سمير جعجع لتولي أمورها لإعادة ترتيب البيت الداخلي أخذ بالاعتبار كل ما حصل خلال الفترة الماضية. وهي مهمة تواجه صعوبات عدة ليس أقلها إعادة بث روح التفاهم بين الكوادر الذين تشردوا لفترات طويلة وقامت بينهم تباينات بسبب الانقطاع من جهة والضغوط من جهة ثانية والخلافات التي قامت مع وكيلة الحكيم زوجته النائبة استريدا جعجع من جهة ثالثة، عدا عن التباينات التي تخص المرحلة الفاصلة بين توقيف جعجع وبين إطلاقه، حيث معايير الوفاء والتمسك بالمواقف والمبادئ أو الانتقال الى مواقع اخرى. والى جانب هذا النقاش ثمة أمور تتصل بالدور السياسي لهذه القوة التي كانت تقوم سابقاً على مبدأ حماية الوجود المسيحي داخل الدولة بأي ثمن، وبين الدور المنسوب حالياً الى قيادة <<القوات>> من أنها تعمل على الاندماج أكثر بالواقع السياسي العام للدولة، ما يلزمها الحد من <<عصبيتها المسيحية>> والتخلي عن مجموعة من عناصر التعبئة والشعارات والوسائل التنظيمية. وهي ايضا مهمة كبيرة. وهناك ايضا الهم المركزي المتصل بكيفية مواجهة المد العوني متواصل النمو داخل الشارع المسيحي، وعدم حصول تحولات جدية في القواعد الشعبية للحلفاء من المسلمين.
وفي المقابل يقف تيار العماد عون في واجهة الاحداث، وهو يتمتع بعناصر تؤهله للقيام بأمور كثيرة، فهو الاكثر شعبية والاقل اتهاماً بالإجرام والفساد، وهو الاكثر فعالية خلال مرحلة <<النضال المسيحي>> بوجه السياسة السورية في لبنان، وهو تيار يحظى بعطف أو تاييد معين لدى أوساط اخرى في لبنان وفي الطوائف الاخرى، وهو يمثل الشريحة المسيحية الأقرب الى دورة الحياة اليومية في الاقتصاد والتجارة والاعلام والتعليم والعمل. وهو يمثل الحل الوسط عند فريق كبير من البرجوازية المسيحية التي تسعى لاستعادة دور حيوي من جهة، ويتيح لها من جهة ثانية عدم مقايضته بعلاقة غير صحية كتلك التي قامت بينها وبين فريقي الكتائب و<<القوات>> خلال فترة الحرب.
كما يتمتع التيار الوطني الحر بفرصة تولي معارضة جدية ونقدية للحكم القائم حالياً ولديه من الافكار والبرامج التي تخص مشاريع الاصلاح ومواجهة الفساد ما يقيه المساءلة في مسائل اخرى، علماً أن نقاط اختلافه مع الآخرين إزاء <<عناوين وطنية>> ليست قليلة، لكن هذه النقاط لا تمثل اليوم <<الاولوية الواقعية>>، ما يتيح له التواصل مع الآخرين دون موجبات مسبقة. وهي حاله مع بعض حلفاء سوريا في فترة الانتخابات، وهي حاله مع تحالف جنبلاط الحريري في فترة البحث في وضع الحكومة، وهي حاله اليوم مع الفريق الشيعي.
لكن هل يقدر التيار العوني على خلق علاقة مع دول الوصاية تختلف عما فعله حلفاء سوريا؟ وهل بمقدوره انتزاع هامش من المناورة والمبادرة وفق حسابات لبنانية كاملة؟ وهل هو في طور الخروج وبالقوة من دائرة القاعدة المسيحية الى دائرة القاعدة الوطنية؟
إنه الاختبار الذي سيسبق حتماً اللحظة التي يختار فيها الكبار رئيساً جديداً للبنان.