إعادة الاعتبار لمفهوم السلام يأخذ اليوم شكلا آخر بعيدا عن مسار الحركات السياسية منذ نهاية الحرب الثانية، ويعبر أيضا عن بعد جديد في التعامل مع المواجهة التي يمكن أن تخوضها سورية، وهي ليست عسكرية بالضرورة. فمنذ قيام إسرائيل كان "السلام" مفهوما مناقضا لـ"الصراع" ولاسترجاع الحقوق. وحتى عندما تم طرح هذا المفهوم كـ"استراتيجية عربية" فأنه بقي ملازما للحركة السياسية وبعيدا عن الفعل الاجتماعي. وربما جاء التطرف كصورة لاتخاذ "السلام" شكلا رسميا بدلا من أن يصبح ثقافة لا تتناقض مع الحقوق القومية.

وننتبه اليوم إلى أننا أصبحنا محاصرون بخطاب الحرب، وبثقافة الحرب، سواء من الإدارة الأمريكية، أو الحركات الجهادية التي ترى المقاومة لونا واحدا يحتكر الحق .. فالسلام اليوم هو "مواجهة" ضد استراتيجية تحمل "فصام" الأمن عبر مبادئ تبشيرية لا تحمل في إرثها سوى ظلال الحقد وإقصاء الآخر.

ما نراه في السلام هو الحد من "روح القرون الوسطى" لأننا نريد امتلاك خيارنا في رسم ما نريد، بينما تشكل "محاكم التفتيش" على السياق المعاصر في "لجان التحقيق الدولية" نقطة فاصلة في رسم عالمنا ضمن ثقافة كنا نظن أنها مضت بعد أن شهدت أوروبا عصر الأنوار، أو أنها توارت بعد أن اقتنع رواد النهضة العربية ضرورة التعامل مع العصر بوسائله وليس بمنطق الحروب الصليبية.
عندما نريد السلام فإننا نسعى إليه بمنطق الحداثة لأنه ليس فعلا مضادا لـ"العمليات العسكرية"، إنما مجال حضاري من المؤسسات المدنية ومن "الصراع المدني"، بينما لا يريد خطاب الحرب ترك مساحة للعقل كي يتحرك.. السلام كما نفهمه هو فعل العقل ضد استراتيجية الحرب الاستباقية ... وضد احتكار الحق داخل التطرف ... وضد عدم فهم الآخر مهما كان موقعه ....

وعندما نريد السلام فإننا لا نبقى مخنوقين في إطار الثنائيات التي رافقت ظهور الدولة العبرية، فالسلام صراع ضد ما خلفته وتخلفه إسرائيل من تطرف وتعصب داخل مجتمعنا الذي نشأ على الانفتاح والتمايز والتنوع داخل مكوناته ...

ثنائية الحرب والسلام لا يمكنها اليوم أن تحاصر عقلنا لأن ما تشهده سورية هو فعل حرب على كافة مكوناتها ... وفعل شك بالمستقبل وبالغد ... وما تنتظره سورية لا يرتبط بمصير "لجنة التحقيق" لأن "خطاب الحرب" ينتج آلياته بدء بمحاكم التفتيش وانتهاء بقرارات تنتهك حقوق المجتمعات. فوسط هذا الخطاب يتسع مفهوم الأقلية ليصبح العالم مقسما على جغرافية سياسية لها مفهوما الخاص بـ"الأكثرية" صاحبة مبدأ التكفير على الطراز الأمريكي أو الجهادي، و "أقلية" تريد العقل ... تريد السلام.