سركيس نعوم/النهار

صار واضحاً، استناداً الى عدد من التصريحات الرسمية اللبنانية و"الدولية"، ان القاضي الالماني ديتليف ميليس لن يكمل المشوار مع لجنة التحقيق الدولية في اغتيال الرئيس رفيق الحريري التي ترأسها منذ انشأها مجلس الامن قبل اشهر وادار اعمالها بحرفية ومهارة كبيرتين، رغم الانتقادات التي وجهتها اليه الجهات الاقليمية التي بدا ان تحقيقاته اشارت اليها باصابع الاتهام هي وحلفاؤها اللبنانيون. وصار واضحا ايضا القلق الذي شعر به اللبنانيون عند سماعهم الاسبوع الماضي الاخبار المعروفة عن اعتزام ميليس ترك اللجنة. وهو قلق تسبب به اقتناعهم او على الأقل اعتقادهم ان تخلي ميليس عن مهمته، قبل انجازها، قد يكون وراءه رفضه اي تسوية او صفقة تراعي الاعتبارات السياسية الكثيرة المحلية والاقليمية والدولية، وان من شأن ذلك حرفها عن مسارها الامر الذي قد يعطل التوصل الى الحقيقة في الاغتيال المشار اليه اعلاه او قد يوصل لبنان والمجتمع الدولي الى حقيقة ناقصة او مجتزأة. وتسبب بالقلق نفسه ايضا خوفهم من ان يكون المجتمع الدولي بزعامة الولايات المتحدة توصل بعد مساع بذلتها روسيا الاتحادية وعدد من الدول العربية الى تسوية او بالاحرى الى "صفقة" مع سوريا تؤثر في شكل او في آخر على الحقيقة، وتاليا العدالة التي ينتظرها اللبنانيون وتفتح الباب من جديد أمام سوريا، رغم خروجها من لبنان، لكي تعيد التدخل في شؤونه. علما ان كثيرين من هؤلاء لا يعتقدون انها توقفت يوما عن ذلك مباشرة وعبر حلفائها المحليين، وربما لكي تعيد خلط الاوراق فيه بحيث تستعيد مواقع نفوذ بدا لأشهر انها انهارت وتعيد في الوقت نفسه الى موقع الدفاع الاطراف اللبنانيين الذين خاصموها علانية رغم كونهم غالبية ورغم تأثيرهم المهم في الحياة السياسية اللبنانية. والخوف من "الصفقة "الدولية مع سوريا مزروع من زمان في نفوس اللبنانيين وعقولهم بسبب تجاربهم مع المجتمع الدولي وسوريا على الاقل منذ عام 1976 حتى 26 نيسان الماضي.

هل "الصفقة" ممكنة مرة جديدة بين دمشق وواشنطن؟

تفيد معلومات واردة من متابع اميركي دقيق للوضع في المنطقة، خصوصا في لبنان وسوريا، الى عدد من المصادر الديبلوماسية الغربية المطلعة في بيروت انه "لا يعلم باي صفقة حصلت حتى الان بين دمشق وواشنطن وانه سيتفاجأ اذا علم بحصول صفقة كهذه". وتفيد ايضا ان الاستنتاج او الخلاصة الوحيدين اللذين تكوّنا لدى الادارة الاميركية عن هذا الموضوع يشيران الى ان "القيادة السورية عاجزة عن اجراء اي صفقة او بالاحرى عاجزة عن تنفيذ الالتزامات التي لا بد ان ترتبها عليها اي صفقة. ويعود ذلك الى جملة اسباب. منها عدم قدرة هذه القيادة على الوفاء بوعودها والتزاماتها خلافا لما كان يجري في الماضي غير البعيد. ومنها ايضا افتقارها الى الكفاءة او على الاقل الى المهارة". وتفيد المعلومات نفسها ثالثا ان "سوريا وعلى مدى 30 سنة اي من عام 1970 حتى عام 2000 لم تكن مسيّرة من فريق كما اعتقد كثيرون، بل من "نجم" لفريق غير موجود باعتبار ان الذين عملوا معه لم يتصرفوا او ربما لم يسمح لهم بالتصرف كفريق بل كمنفذين لأوامره وتوجيهاته وتعليماته. وما حصل بعد غياب هذا النجم هو ان سوريا صارت بلا "نجم" وطبعا بلا فريق". طبعا لا يرمي ذلك في رأي المتابع الاميركي الدقيق نفسه، الى الاشادة بمستوى القيادة في الولايات المتحدة بالمقارنة مع مستوى القيادة في سوريا، وهو غير رفيع بل يرمي الى تأكيد حقيقة اساسية هي ان غياب "النجم" السوري اي الرئيس حافظ الاسد عام 2000 كان حدثا كبيراً جداً ومهماً جداً. "وذلك امر لم ينتبه اليه يومها كثيرون في العالم وداخل الولايات المتحدة".

وتفيد معلومات الاميركي الدقيق نفسه رابعاً واخيراً ان "على الشعب اللبناني ان "يكبر" وان يبدأ تحمل مسؤوليته حيال وطنه ومصير هذا الوطن وان يكف عن الحلم ان واشنطن لا تنام ابدا وهي تحاول اعادة ترتيب اوضاعه واوضاع بلاده".

وتفيد معلومات من يمكن وصفه بالاميركي المتخصص في شؤون سوريا ثم لبنان وعلى مدى سنوات طويلة اولا من داخل الادارة الاميركية ولاحقا من خارجها انه "لا وجود لصفقة بين دمشق وواشنطن وانه ليست هناك حظوظ للتوصل الى صفقة كهذه ولاسيما في ما يتعلق بالموضوع اللبناني ذلك ان الرئيس جورج بوش وادارته لن يسمحا لسوريا بالعودة الى لبنان ايا يكن شكل هذه العودة ولن يسمحا لها بزعزعته، ويشمل ذلك الجهات السياسية الحليفة لسوريا في لبنان والقادرة بوسائل عدة على الزعزعة وخصوصا من طريق خلق ازمة حكومية وربما ازمة دستورية ولاحقا ازمة وطنية بانسحاب مبرمج او مخطط له من الحكومة. ويعني ذلك ان اي خطأ في الحساب من هذه الجهات او بعضها قد يتسبب بخسارة المكاسب الكبيرة التي حققتها على مدى ثلاثين عاما الماضية".

هل يبدد ذلك قلق اللبنانيين المشار اليه اعلاه من صفقة اميركية – سورية؟

لا يبدو ذلك استنادا الى متابعي الموضوع اللبناني – السوري – الاميركي وبدقة من لبنان. فالمعلومات التي توافرت لديهم في اليومين الماضيين، رغم جزئيتها، تشير الى ان الصفقة بين دمشق وواشنطن قد وضعت على نار حامية بمساع دولية وعربية معروفة، والى انها قد تكون بدأت السير على طريق الاكتمال. وهي تقضي، طبعا في حال تبين للجنة التحقيق الدولية وخصوصا بعدما ترك رئيسها ديتليف ميليس اياها، ان هناك مسؤولية سورية ما في الاغتيال وعنه تستوجب التوسع في الاستدعاء والتحقيق تقضي بحصر هذه المسؤولية في اشخاص محددين وتاليا بمحاكمتهم والذين عاونوهم من اللبنانيين في تنفيذ الجريمة. وتقضي ايضا برفع الغطاء الاقليمي والحليف المحلي له عن رئيس الدولة الامر الذي يسمح بتنحيه على نحو لائق وبانتخاب خلف له يساهم مع الحكومة ومجلس النواب وبتعاون مجموعتي 8 آذار و14 آذار في دفع الاوضاع في البلاد الى الاستقرار وفي البحث في كل القضايا الشائكة وهي كثيرة بهدوء وبعيدا من الاستفزاز والتحدي. وتقضي اخيرا بتأكيد استقلال لبنان وسيادته ونظامه الديموقراطي الحر و"باقتناع" سوريا بالتخلي عن التدخل فيه وبحل المشكلات القائمة بينها وبينه وحماية مصالح كل منهما وامنه.

طبعا، ليس هذا الكلام مجرد تكهنات، كما انه لم يصبح حتى الآن على الاقل حقيقة نهائية، وهو قد يزعج اللبنانيين طلاب الحقيقة المطلقة والعدالة الكاملة. ولكن في العلاقات بين الدول قد تكون هناك مصالح لا يمكن تجاهلها الامر الذي يفرض على الدول الصغيرة الاستجابة، علما ان لبنان ليس وحده دولة صغيرة في المنطقة. لكن ما لا بد من قوله هو ان حماية انجاز استشهاد رفيق الحريري ورفاقه واستشهاد جورج حاوي وسمير قصير وانجاز الاستشهاد الحي لمروان حماده ولمي شدياق، اي انجاز الاستقلال الثاني الذي حققته دماؤهم، لا تؤمنهما فقط الحقيقة والعدالة اللتان يستحيل التوصل اليهما من دون المجتمع الدولي، سواء كانتا كاملتين او جزئيتين، بل يؤمنهما ويحميهما الشعب اللبناني بوحدته وبوعيه وبحكمته وبابتعاده عن العصبيات الطائفية والمذهبية والمصلحية والفئوية وبتمسكه، ايا تكن الضغوط، بكل هذه الامور وباقتناعه بانه وحده يقرر مصيره ومصير بلاده، علما ان ذلك لا يعني الانعزال عن المحيط وعن العالم.