سعد ك. كيوان/السفير

رفعت التطورات الأخيرة من حدة التجاذبات الداخلية على وقع مشهد أقليمي، أو الأصح دولي إقليمي يشوبه شيء من الضبابية في ظل قرار رئيس لجنة التحقيق الدولية القاضي ديتليف ميليس التخلي عن مهمته والكلام الذي قيل عن امتعاضه من <<صفقة>> حيكت ربما من وراء ظهره بين كواليس الأمم المتحدة وبعض العواصم العربية والدولية، ما سمح لسوريا بالتقاط انفاسها. وترافق ذلك داخليا مع اشتداد <<الكباش>> في صفوف الأغلبية النيابية وتهديد <<الثنائي الشيعي>> بتعليق مشاركته في الحكومة اذا ما تم بحث مسألة المحكمة الدولية التي يصر عليها تيار الحريري ووليد جنبلاط، ما زاد في تعميق الهوة وربما في إضعاف الثقة بين الطرفين. وبدا ان الأزمة التي دخلت في الأيام الأخيرة <<عنق الزجاجة>> اضطرت جنبلاط الى التحرك باتجاه السعودية ل<<استكشاف>> الصورة، وسعد الحريري الى طرح معادلة <<لن نتخلى عن طلب المحكمة الدولية ولا عن سلاح حزب الله>>، معادلة أراد منها ان تكون تسوية تبدو في واقع الحال شبه مستحيلة، اذ ان لكل هواجسه وحساباته وشكوكه، عدا عن الاحتقانات المذهبية المتنامية.

ويبدو ان أكثر ما يقلق الأثنين هو محاولة النظام السوري الاستفادة القصوى من <<الممانعة>> الشيعية واللغط الذي رافق التحقيق الدولي مراهنا على عنصر الوقت والمناورة كما يفعل باستمرار، انطلاقا من قراءة تشبه مثيلاتها في زمن الحرب الباردة، أو ما قبل 11 ايلول. وتقوم هذه القراءة، أولا على ما يجري في العراق والصعوبات التي يواجهها الاحتلال الاميركي ومحاولة إدارة جورج بوش إيجاد تسوية <<موضعية>> مع ايران حول تركيبة سلطة ما بعد الانتخابات المقررة في 15 كانون الأول من جهة، وعبر الحوار الذي فتح عمليا مع الفصائل السنية المسلحة من جهة ثانية، والتي تعتبر دمشق انه سيكون بمقدورها ان تلعب دورا في هذا المجال، في ظل الكلام عن امكانية استبدال القوات الاميركية بقوات عربية بمشاركة سورية.

وترى أوساط سياسية مراقبة ان المراهنة على هكذا تحول تستند الى رؤية تفاؤلية تعتبر ان التطورات المفترضة في العراق تعززها التصريحات الاميركية على لسان أكثر من مسؤول عن بدء انسحاب اميركي تدريجي أو جزئي في النصف الأول من العام المقبل. وفي حال صحت هذه التوقعات، فإنها ستضفي شيئا من الهدنة على الوضع الاقليمي لبضعة أشهر تدخل معها الولايات المتحدة نهاية الصيف المقبل الاستحقاق الرئاسي وعندها ستتكثف جهود الحزب الجمهوري (حزب بوش الراحل بطبيعة الحال) على معركة رئيس الولايات المتحدة المقبل.

أما الشريك الآخر، أي فرنسا فينطبق عليها أيضا السيناريو نفسه وربما بوتيرة أسرع على اعتبار ان الانتخابات الرئاسية مفترض ان تجري في أيار 2007، أي فقط بعد سنة وبضعة أشهر، علما ان المعركة قد انطلقت عمليا منذ فترة. وأهم ما يراهن عليه النظام السوري في هذا المجال ان جاك شيراك، المعروف بصداقته القوية مع الرئيس الشهيد رفيق الحريري، سيغادر نهائيا قصر الاليزيه، وان أيا من الخلفاء المحتملين لن يكون بالضرورة منشدّا بنفس الدرجة الى الملف اللبناني، خاصة نيقولا ساركوزي المعروف بميوله الأطلسية.

وبين احتمالات المشهد العراقي وانصراف كل من اميركا وفرنسا الى الشأن الرئاسي الداخلي، هناك ايضا الانتخابات في الأراضي الفلسطينية المحتلة في كانون الثاني المقبل، ولاحقا في آذار المقبل الانتخابات الاسرائيلية واحتمال عودة ارييل شارون بقوة الى السلطة وتداعيات ذلك على مسار المفاوضات مع السلطة الفلسطينية، في ظل قراءته <<الخاصة جداً>> ل<<خريطة الطريق>> وانفتاح الوضع بالتالي على المجهول بالتزامن أيضا مع عدم استعداد واشنطن لممارسة ضغوط جدية على اسرائيل.

وهكذا، وبحسب هذه القراءة، يبقى المشهد الاقليمي وعناصره قابلة للاستخدام من قبل سوريا. ولكن اذا كانت هذه مراهنة النظام السوري فماذا عن السلوك الاميركي والفرنسي، على الأقل في ما يتعلق بلبنان؟

تعتبر الاوساط السياسية المتابعة ان ما جرى مؤخرا كان الهدف منه ايجاد مخرج لمأزق التحقيق مع القادة الأمنيين السوريين، ولو ان ما حصل أوحى بحصول <<صفقة>> هي ليست كذلك، ولا يجوز لسوريا ان تفهمها على هذا النحو. وتعود الى الوراء مذكرة بما حصل عشية الانتخابات النيابية، وتدخل الطرفين لفرض موعد الانتخابات واعتباره أهم من القانون رغم موجة الاعتراض التي سادت أوساط المعارضة نفسها. ثم، تشكلت لجنة التحقيق الدولية رغم اعتراض البعض وانكبت على ملف الجريمة، وقد واجهت ممانعة سوريا ومماطلتها في التعاون مع التحقيق بصدور القرار 1636 بالاجماع عن مجلس الأمن.

واليوم، تقرأ واشنطن وباريس الحركة السورية وما يجري في الداخل على انه محاولة لمنع أو تأجيل تشكيل محكمة دولية بهدف إرباك الساحة الداخلية وعرقلة التحقيق وشل فعالية الحكومة اللبنانية. وتلفت في هذا المجال الى تصاعد النبرة السورية في الأيام الأخيرة، خصوصا الوزير السوري فاروق الشرع الذي تحدث من القاهرة عن محاولة بعض الأطراف في لبنان لتدويل الوضع وإحداث تغيير سلبي يضر بسوريا، وتكرار الرئيس بشار الأسد الكلام عن براءة سوريا. وهما بالتالي معنيان بهذا <<السباق>> الذي سيكون عنوانه إنشاء محكمة دولية بقرار من مجلس الأمن الدولي.

ولكن، كيف يمكن توفيق ذلك مع <<الكباش>> الداخلي وحركة الاصطفاف الحاد ومشكلة رئاسة الجمهورية؟ تؤكد هذه الاوساط ان ايجاد حل للرئاسة أمر ضروري كي يتاح للمعادلة السياسية التي أفرزتها الانتخابات ان تستقيم. لذلك، على قوى الأكثرية النيابية ان تجد صيغة لإخراج اميل لحود من قصر بعبدا كي لا تضطر الى البحث عن آليات أخرى تؤدي الى وضع حد لهذه <<الحالة الشاذة>> وسحب ما تعتبره <<ورقة>> معطلة تستفيد منها سوريا بشكل كبير. وتوحي في هذا المجال ان تقرير ميليس النهائي، الاسبوع المقبل، ربما يحمل مفاجآت في هذا المجال.

فإذا صحت هذه القراءة، يصبح التدويل الذي يتخوف منه كثيرون واقعا بدلا من <<التدويل>> القانوني للتحقيق، طالما انه لا يمكن للحكومة اللبنانية في النهاية ان ترفض المحكمة الدولية اذا قرر مجلس الأمن إنشاءها. أوليس من الأفضل ان يفتح حوار جدي بين القوى المشاركة في الحكومة و<<يتفهم كل طرف هواجس الآخر>>، كما عبر رئيس الحكومة؟ وهل يحتمل الوضع بعد هذا <<اللعب على الحافة>> والتلاعب بأعصاب اللبنانيين؟