ميشال كيلو/القدس العربي

عندما يراقب المرء العلاقات اللبنانية/السورية، يصيبه غم شديد ويحيره ما تعرضت له من تبدل قلبها إلي حال تسبق عادة الحروب، حتي ليمكن القول إن البلدين الشقيقين ينخرطان في عملية تصعيد قد تطيح بما تبقي في الشرق العربي من كيانات وطنية، وتقذف بها إلي حمأة جنون سيدمر ما بقي من جسد أمة العرب، التي تم تهشيمها بأكثر الصور تصميما خلال القرن الماضي، ويراد لها اليوم أن تواصل تفككها وتلاشيها، كي لا تبقي في المشرق أية قوة غير العدو الإسرائيلي، ولا يكون فيه إرادة غير إرادته.

ومن يتابع ما يجري، يجده شبيها بما حدث قبل عام 1948، ويشعر أن شيئا رهيبا يدبر، من غير الجائز قبوله أو تبريره بأي معيار أو أية ذريعة، لا يحق لأحد الدفاع عن الأطراف الضالعة فيه، لأن الأساس في الحكم عليها ليس خطأ أو صواب سياساتها، بل سماحها بوقوع ما سيقع، لأنه وقوعه بحد ذاته جريمة رهيبة، يبطل حدوثها حق سورية ولبنان في أن يكونا علي صواب، ولأن النتائج، التي ستترتب عليها ستكون مأساوية إلي درجة تجعل أذاها عاما وشاملا يستحيل أن تترتب عليه أية منفعة أو فائدة.

ثمة كارثة قادمة لا يعلن أسبابها، مع أنها تصبغ بلون الدم أفق العلاقات السورية/اللبنانية، كما لا يعترف أحد بدوره في تأجيج نيرانها، بينما تبدو نتائجها المرعبة، التي يشعر المواطن العادي بها ويخشاها، وكأنها خفية عن أعين المسؤولين وأصحاب القرار، الذين يسهمون بحماسة محيرة في توتير الأجواء بين البلدين وداخلهما، وفي الإجهاز علي أبعادها الأخوية الطبيعية، ويبدون كمن أصابه خدر أو عمي يحول بينه وبين الإمعان في تخريبها، ويدفع به إلي وقف الضرر الشديد الذي يلحقه بها.

ينخرط عدد متزايد من مواطني البلدين في الانقلاب، الذي يحول دولتين شقيقتين وجارتين إلي دولتين متعاديتين يحرض حكام كل واحدة منهما شعبه ضد الأخري، ويستخدم لغة لطالما استخدمت ضد العدو الإسرائيلي، تجزم أن البلد الآخر عدو، وأن شعبه وحكومته يستحقان العقاب، وأن السلامة الوطنية تتطلب القطيعة معهما. في هذه الأثناء، تنهال علي المواطن السوري واللبناني سيول من الأكاذيب التحريضية حول مصير مواطني كل بلد في البلد الآخر، هي في حقيقتها حملة مسمومة تشرف عليها جهات رسمية وغير رسمية، بحيث بدأت قطاعات متزايدة من الشعبين تصدق ما يقال، وأخذت روح القطيع تؤدي دورها في تغذية العداء بينهما، بعد أن اكتسبت سمة وطنية نزلت بها مهانة لا شيء غير الانتقام من الآخر يعيد الاعتبار إليها.

بل إن هناك نارا تحت رماد الأخوة توشك أن تحرق البلدين، اللذين تتربص بهما، وهما في حال مخيفة من الضعف والعجز، أخطار يتطلب صدها توحيد قواهما عوض تشتيتها، وتعزيز علاقاتهما بدل تقويض القليل الباقي منها. وإنه لشيء عجيب أن حكام سورية ولبنان لم يسمعوا بعد بما يقوم به العدو الإسرائيلي من تحرش عسكري متصاعد بحزب الله، مع أن هدفه كشف البلدين ودفعهما إلي مزيد من العداوة، بل وإشعال فتيل فتنة عامة بينهما وربما داخل كل منهما، توفر علي امريكا وعليه تكاليف العمل المباشر الباهظة ضدهما، وتحقق أهدافهما.

ما العمل، إذا كانت سياسات البلدين تتجاهل مصالحهما، وتنزلق أكثر فأكثر نحو صراع عبثي يهدد حتي وجودهما؟ أعتقد أنه لا يبقي من خيار غير قيام قوي المجتمع المدني فيهما بوقف تدهور علاقاتهما، وبتحقيق مصالحة بينهما تجنبهما الضرر الذي سينزل بمجتمعيهما ودولتيهما، إذا ما استمر صراعهما أو تحول إلي اقتتال بينهما. تمس الحاجة إلي مصالحة ينجزها مجتمع البلدين الشقيقين المدني، بسبب فشل النظامين في تطبيع علاقاتهما، واندفاعهما إلي خيارات عدائية بديلها الوحيد قيام مواطنيهما بحمل المسؤولية عن مصيرهما، وسعيهم إلي إنقاذهما، لأن ترك مصيرهما لحكومتيهما يعني تعريضهما لخطر وبيل.

من الضروري أن تلتقي قوي المجتمع المدني اللبنانية/السورية وأن تتدارس سبل تطبيع علاقاتهما كبلدين جارين، حرين ومستقلين. ومع أن هذه المهمة قد تكون جديدة علي مجتمعات العرب المدنية، فإن هذه تستطيع بالتأكيد إنجازها بما لديها من وعي وخبرة وما يجب أن تبديه من تصميم علي تحقيقها، مهما كانت الصعاب.

السؤال الآن: هل سيحقق ممثلو المجتمع المدني هذا العمل التاريخي، كي يجنبوا بلديهما نتائج صراع هو جزء من سقوط العرب وانهيارهم، أم سيكتفون بمواقف جزئية ومحدودة، فيها، مهما كانت صحيحة وصائبة، هلاكهم وخراب وطنيهم؟