حازم صاغيّة/الحياة

إذاً، أصبح الإخوان المسلمون أصحاب الكتلة المعارضة الأكبر والأقوى في البرلمان المصري. وهو حدث يحصل للمرة الأولى، منذ 1952، بالاخوان أو بغيرهم: ذاك أن الكتل المعارضة الجدية كفّت عن الوجود منذ ذلك الحين. بل البرلمان نفسه كفّ، وإن استمر مبنى واسماً.

والحقيقة هذه تقول إن مصر، منذ نصف قرن ونيّف، لم تطور سوى واقعين، وبمعنى ما «شرعيتين»: ففوق الأرض، في المعلن والمنظور، هناك الحكم العسكري وشبه العسكري. وتحت الأرض، في المخبّأ، هناك السلطة الأخلاقية للاسلاميين. ويبدو أنه كلما كان الأول يزداد ضراوة، كانت الثانية تزداد تمكّناً وتشعّباً في المجالات «الخفية» التي تسيطر عليها.

وربما خامر البعض إمكان الرسوّ على واقع واحد وشرعية واحدة يتجسدان في مشروع كالمشروع الناصري. فهذا الأخير يأخذ من الإسلاميين انتماءهم الى المكان ودفاعهم عنه ضد «الغريب» و»المستعمِر»، ويأخذ من العسكريين صلتهم بواقع الدولة الحديثة والانبثاق من مؤسسة ما وتراتُب معين. بيد أن التجارب برهنت على استحالة ذلك. فالاخوان لم يتعرضوا للاضطهاد كما تعرضوا في العهد الناصري، ولم يكن مصادفاً أن لحظات احتدام الصراع بين عبد الناصر والغرب كانت هي نفسها لحظات ازدهار القمع الموجهة شفرته الى الاخوان: أواسط الخمسينات (عبدالقادر عودة) وأواسط الستينات (سيد قطب).

أما اذا استشهدنا الأوضاع العربية المشابهة فلن نقع على ما يخالف التقدير هذا: ففي سورية حلت الثنائية نفسها، وبدموية أكبر بكثير، بين البعث والاسلاميين. وفي العراق، حيث تتلوّن النزعة الاسلامية بلون الانقسامات الأهلية، كان سقوط الحكم البعثي مقدمة للظهور المدوّي للاسلاميين، الشيعة منهم والسنة. وخارج العالم العربي، تقدم ايران المثال الكلاسيكي عن انتصافٍ يأخذ من الأشكال أكثرها تطرفاً، بين عسكرية الشاه الحداثية والقومية وبين أصولية الخميني.

فإذا شئنا رصد هذه الوجهة في امتداداتها، لاحظنا الانهيار التراجيدي لليساريين في انتخابات مصر الأخيرة حيث ألغاهم الاستقطاب الثنائي بين البيروقراطية الحاكمة والاسلاميين. يصح الشيء نفسه في الليبراليين الذين عصفت بهم المزاعم الذاتية المضخّمة، وفي الناصريين ممن غدوا أيتام بيروقراطية الدولة، أو أنهم ولدوا بعدما اكتمل انتقال البيروقراطية هذه من يد الى يد. وبكثير أو قليل، يمكن التدليل على ما يشبه الحال المصرية في أوضاع عربية لا تُحصى، حيث تعاني القوى التي لا تتصل بالبيروقراطية الحاكمة، ولا بالاسلام الأصولي، الجدب أو الضمور.

لكن ما الذي يقوله واقع كهذا؟

إذا صح أن الناصرية هي التي أنجبت الاستقلال «الفعلي» لمصر، أي أنها من قضى على «نفوذ الاستعمار» بعد القضاء علىالاستعمار، صح أنها هي التي أسست تلك الثنائية الاستقطابية حيال الشرعية: اما البيروقراطية المعطلة لحكم القانون وللبدايات المؤسسية والدستورية التي أنشأها الاستعمار، واما الأصولية التي تستمد شرعيتها من المقدّس وتأتي من الماضي بإجاباتها عن الحاضر والمستقبل.

وانعدام كهذا يصيب الشرعية السياسية الحديثة في السياسة العربية وثقافتها هو كارثة الكوارث. فهو أخطر من الاستعمار، ومن الاستغلال، ومن انعدام الديموقراطية أو العدالة الاجتماعية أو أية قيمة سياسية أخرى. ذاك ان طرد الاستعمار أو رفع أي من الأفكار السياسية الى حيّز الحكم والسلطة، من غير تطوير شرعية زمنية قانونية وحديثة، هو بمثابة تشييد عمارة من دون أسس ومرتكزات. وربما كان هذا سر اللهو الذي تتسم به السياسات العربية، بسجالاتها الدموي منها والهادئ، وبتقلبات أفكارها وقياداتها ورموزها وأطوارها.

فكل شيء آخر هباء منثور ما لم تُحلّ المعضلة هذه التي لم يتصدّ لها، في تاريخنا الحديث، الا... الاستعمار.

وأن لا يكون في وسعنا مواجهة المشكلة هذه، بغير التسليم للاستبداد، أو الهرب الأصولي منه، فهذا يعزز حجة أولئك النواب الفرنسيين في القانون الذي سنّوه مؤخراً عن ايجابية «الحضور الفرنسي» في ما وراء البحر، وضرورة أن تعكسه مناهج التعليم.

لكن تعقيد أوضاعنا لا يقف عند حد، ليس فقط لأن الاستعمار لن يأتي، ولا لأنه إذا أتى فلسوف نقاتله، بل أيضاً لأن «الاستعمار» الذي أتى أنجز مهمتين حتى الآن: أهاج الأصوليات وأطلقها في مصر وفي غير مصر بذريعة «الديموقراطية» الخرقاء، وفتح العراق باباً أمام الأصولية الإيرانية.