خير الله خير الله/الرأي العام

ثمة من يريد تحويل قضية المحكمة الدولية الى قضية تتعلّق بالسيادة والاستقلال اللبنانيين, أما الواقع، فانه يتمثّل في أن من يخشى المحكمة الدولية في قضية اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري يخشى الحقيقة , ما عدا ذلك كله كلام لا معنى له يستهدف التغطية على عملية كشف الحقيقة وعرقلتها ليس إلاّ على طريقة استخدام «الشاهد الظريف» في الفيلم السوري القصير, هذا الشاهد الذي ظهر فجأة في دمشق ليدلي بسلسلة من التناقضات تقود الى طرح السؤال الآتي: هل في استطاعة النظام السوري التعاون الصريح مع لجنة التحقيق الدولية أم لا؟ هذا هو السؤال الحقيقي الذي يفسّر الى حد كبير التأخير السوري في التعاطي مع لجنة التحقيق من جهة والحاجة الى ضغوط كبيرة لحمل النظام في دمشق على ارسال مجموعة من المسؤولين الأمنيين الى فيينا كي يخضعوا للاستجواب فيها من جهة أخرى.

عشية صدور التقرير الثاني لرئيس لجنة التحقيق الدولية القاضي الألماني ديتليف ميليس، ما زال النظام السوري يراهن على الوقت من أجل تفادي الحقيقة ومواجهة الأسئلة الحقيقية التي يفترض ان يجيب عنها، أقله من زاوية انه كان المسؤول عن كلّ شاردة وواردة في لبنان لدى اغتيال رفيق الحريري الذي وجه اليه أركان النظام السوري أنواع الاتهامات كلها والكلام البذيء في الأشهر التي سبقت تنفيذ الجريمة.

مرة أخرى، ليس في الامكان اتهام النظام السوري بشكل مباشر بأنه وراء الجريمة ما دام التحقيق مستمراً، لكنّ الخطب والتصريحات كلها التي صدرت حتّى الآن عن المسؤولين السوريين تصب في اتجاه واحد وحيد هو أن لا أحد يمتلك أدلة على التورط السوري في الجريمة, وبكلام أوضح، يكاد المسؤولون السوريون يصلون الى مرحلة يقولون فيها: نعم نحن وراء الجريمة، لكن لا أحد يستطيع اثبات اننا فعلناها, أكثر من ذلك، يكاد المسؤولون السوريون يقولون بالفم الملآن: لقد خرجنا من لبنان وما الذي نستطيع عمله أكثر من ذلك؟ اليس ذلك كافياً كي تكون هناك مساومة على دمّ رفيق الحريري، اليس ذلك كافياً لصفقة ما ؟ ينسى هؤلاء أن ليس من يريد المساومة على دم رفيق الحريري وأن العالم تغيّر كثيراً منذ اغتيال كمال جنبلاط في العام 1977 وحتى اغتيال رفيق الحريري في العام 2005. ولعل ما يفترض في النظام السوري تذكره أن حائط برلين انهار تحت ضغط الناس العاديين أوّلا وأن برلين الغربية هي التي انتصرت على برلين الشرقية في الحرب الباردة وليس العكس, انتصرت عملياً الحرية على النظام المخابراتي لا أكثر ولا أقل.

على ماذا يراهن النظام السوري في سعيه الى شراء الوقت؟ يراهن أوّلا على ان العماد اميل لحود لا يزال في بعبدا, وأدى الرجل حتى الآن المطلوب كله منه في مجال الابقاء على وجود معين، ولو محدود، للنظام الأمني السوري -اللبناني الذي يقف خلف الجريمة بطريقة أو بأخرى, والأهم من ذلك أن رئيس الجمهورية، في غياب الاتفاق على بديل منه، يتولى حماية يتامى النظام الأمني السوري- اللبناني على أمل استخدامهم في الهجوم المعاكس متى سنحت الفرصة, والدليل على ذلك أن يتامى النظام الأمني لم يترددوا لحظة في دعم أقوال «الشاهد الظريف» فور عقده مؤتمره الصحافي في دمشق, وإن دلّ ذلك على شيء، فانه يدل على أن النظام الأمني المشترك لا يزال ينتظر الفرصة المناسبة للانقضاض على لبنان واللبنانيين مجدداً والعودة بعقارب الساعة الى خلف.

أكثر من ذلك، يراهن النظام السوري على الكلام الفارغ الذي يقول ان لبنان صار تحت الوصاية الأميركية - الفرنسية وانه تخلى، بصفة كونه «ناكراً للجميل»، عن وصاية عربية، وهي سورية تحديداً، لمصلحة وصاية دولية, هذا الكلام الذي يبدو مغرياً كونه ينطلي على السذّج، لا قيمة له لسبب في غاية البساطة هو أنه لا يستهدف سوى الهرب من الحقيقة, فمن يشكو في لبنان من الوصاية الدولية على البلد، وهي وصاية لا وجود لها سوى في الرؤوس المريضة، عليه ان يكون صادقاً مع نفسه وألاّ يتغاضى عن العملية العسكرية الأميركية التي حصلت في العراق وأدت الى التخلص من نظام كان لا بد من التخلص منه, هل أميركا ملاك في العراق وشيطان في لبنان؟ هل أميركا تمتلك مشروعاً يمكن التغاضي عنه في العراق ويمكن الاكتفاء بانتقاده كلامياً في بعض المناسبات رفعاً للعتب، في ما يجب أن تُحارب في لبنان على شيء لم يحصل بحجة أن لديها مشروعها للمنطقة وان البلد صار تحت وصايتها؟ هذا الكلام ليس دفاعاً عن الادارة الأميركية التي لا يمكن لعاقل الدفاع عنها، بمقدار ما أنه يستهدف طرح سؤال فحواه، هل بقي شيء من سياسة أميركية في الشرق الأوسط؟ وهل لا يزال في الامكان الحديث عن مشروع أميركي في المنطقة في وقت تبحث ادارة بوش الابن عن مخرج من العراق يحفظ لها بعض ماء الوجه؟

من يريد الحقيقة فعلاً لا يتوقف عند قضية المحكمة الدولية ويسعى الى عرقلة تشكيلها، علماً بأن القرار بانشاء المحكمة سيؤول في النهاية الى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة, انه الجهة التي كانت وراء تشكيل لجنة التحقيق الدولية بموجب القرار الرقم 1559. من يريد الحقيقة فعلاً يعمل من أجل المحكمة الدولية التي هي في النهاية في مصلحة لبنان واللبنانيين وسورية والسوريين, فالحقيقة هي المطهر الحقيقي للنفوس وهي التي ستفتح المجال أمام علاقات طبيعية أخوية بين الشعبين اللذين لديهما مصلحة مشتركة في الوصول اليها بعيداً عن الشعارات الطنانة التي لن تعيد الجولان مثلما لم تعد في أي يوم أرضاً عربية محتلة,

عشية صدور تقرير ميليس، نفّذ النظام السوري سلسلة من المناورات «الناجحة»، في رأيه ورأي الذين ارتبطوا به عضوياً، واستهدفت المناورات، اول ما استهدفت، الرأي العام الداخلي بهدف خلق عصبية للنظام,هذا النظام الذي خيّب آمال مواطنيه طوال ما يزيد على اربعة عقود كانت كافية لتدجين السوريين وجعلهم خاضعين كلياً لآلة أمنية لا تشبه سوى تلك التي استخدمت في دول أوروبا الشرقية بواسطة أنظمة ما لبثت أن انهارت مع انهيار الاتحاد السوفياتي.

ليت النظام السوري يقتنع بأن الوقوف في وجه المحكمة الدولية قضية خاسرة سلفاً، لا لشيء سوى لأن الحقيقة ستظهر قريباً ولأن المشكلة لا تكمن في شخص ميليس أو المشروع الأميركي وأحياناً الأميركي- الفرنسي في المنطقة، بل هي في مكان آخر, في المكان الذي فيه المشكلة، يبدو مطلوباً في آخر المطاف الاجابة عن السؤال الواضح: من قتل رفيق الحريري ؟ والمؤسف أن النظام السوري ليس قادراً على التعاون الحقيقي والفعلي مع أي هيئة أو جهة مهمتها الاجابة عن هذا السؤال, ما لديه كله يقوله بلسان كبار المسؤولين فيه أن في الأمكان التوصل الى صفقة ما دام ليست هناك أدلة على أننا قتلناه, انه بكل بساطة تفكير من عالم ولّى الى غير رجعة، عالم لا مجال للترحم عليه,,,