باتريك سيل/الاتحاد

ربما يستنتج مؤرخو المستقبل أن هجمات الحادي عشر من سبتمبر قد أطارت صواب الولايات المتحدة الأميركية وسلبتها أخلاقيتها وقيمها• فعلى إثر الهجمات التي شنها ضدها تنظيم ’’القاعدة’’، ضربت واشنطن بكتاب القوانين الدولية عرض الحائط، ثم ما لبثت أن دشنت عصراً جديداً من عصور البربرية والوحشية الغابرة، بممارسات عنفها، وبأحاديتها المنفلتة السافرة في خوض ما أسمته بـ’’الحرب على الإرهاب’’• وغني عن القول إن غزوها غير المبرر للعراق، كان انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي، لا تزال واشنطن وحليفتها لندن، تدفعان ثمنه باهظاً وفادحاً• ولكن لا شيء يضاهي انتهاكها للقانون الدولي، أكثر من قسوة معاملتها للسجناء الذين ألقي القبض عليهم في ساحات ومواقع النزاع، في كل من أفغانستان والعراق! ولا تزال تلك الصور البشعة المروعة التي التقطت من سجن أبوغريب، تؤرق الضمير الإنساني العالمي وتهزه إلى اليوم• كيف لا وقد مورست بحق أولئك السجناء، على نحو منتظم ودوري، شتى ألوان التعذيب، من إزعاج وضوضاء وحرمان مستمر من النوم، وإبقائهم في أوضاع مؤلمة جسدياً ونفسياً لساعات طويلة ممتدة، وإرغامهم على التعري، إلى جانب تعريضهم لمهاجمة الكلاب الشرسة المتوحشة المدربة على نهش الأجزاء الحساسة من جسم الإنسان، وصولاً إلى التعذيب بما يشبه الغرق؟! وإن كانت الدولة العظمى الوحيدة في العالم، هي من يخرق القانون الدولي، فإنها إنما تمنح صكاً لإشاعة وممارسة الخرق ذاته، لأي مستبد متسلط، أو لأي شرطي سادي يتلذذ بتعذيب وإيلام سجنائه!

يضاف إلى هذا السجل المخزي، احتجاز مئات المشتبه بهم في معسكر سجن خليج جوانتانامو، الذي يمثل بحد ذاته استغلالاً سيئاً للقوة والنفوذ• ومن الصدمات العنيفة التي سددتها واشنطن للضمير الإنساني العالمي، ما يعرف اليوم بـ’’التبادل فوق العادي للأسرى’’ بمعنى ترحيل الأسرى المشتبه بهم في قضايا الإرهاب، كي يتم حبسهم واستجوابهم والتحقيق معهم -وربما تعذيبهم- في دول أخرى، خاصة في بعض الدول العربية•

وليس ذلك فحسب، بل التفتت أنظار العالم كلها خلال الأسابيع الأخيرة الماضية، إلى فضيحة أميركية أخرى، تتمثل في تسيير وكالة المخابرات المركزية الأميركية، لمئات الرحلات الجوية السرية، إلى دول أوروبا الشرقية، ويقال إنها حملت عدداً كبيراً من المعتقلين المشتبه بهم إلى مختلف دول المنطقة، بقصد احتجازهم واستجوابهم، بما في ذلك احتمال تعرضهم للتعذيب• ولذلك فقد واجهت كوندوليزا رايس وزيرة الخارجية الأميركية، أثناء زيارتها الأخيرة لأوروبا، سيلاً من الأسئلة حول هذا الموضوع• هذا وقد أبلت رايس بلاءً حسناً في الدفاع عن نفسها، وعن سمعة بلادها بقولها ’’لا تسمح الولايات المتحدة ولا تتغاضى مطلقاً عن تعذيب المعتقلين’’• غير أن الحقائق تكشف عن قصة جد مختلفة عما تقوله رايس• وتتلخص هذه الحقيقة العارية، في أن إساءة معاملة المعتقلين في السجون ومرافق الاعتقال الأميركية، قد أصبحت أمراً شائعاً وربما روتينياً أيضاً منذ الحادي عشر من سبتمبر وإلى اليوم• لكن على رغم ذلك، ربما أسهمت تصريحات كوندوليزا رايس المتكررة في أنحاء القارة الأوروبية، مصحوبة بالتعديلات التشريعية الجديدة التي يدفع بإصدارها من قبل الكونجرس الأميركي، السيناتور جون ماكين، بما يؤدي إلى تحريم ووقف هذه الممارسات الوحشية اللاإنسانية والحاطة من كرامة السجناء والمعتقلين، وربما أسهم كل ذلك، في إثناء أميركا عن غيها وإرجاعها إلى رشدها، على رغم تأخر هذه العودة، وعلى رغم ما ألحقته بها سلفاً من دمار أخلاقي وسياسي كبير، وخزي لا يمحى ولا يزول•

فما أكثر الأرواح المفقودة والنفوس التي حطمت جراء هذه الممارسات الوحشية القاسية• وما أعمق الجراح والآلام التي غارت في نفوس الكثيرين من ضحاياها! لكن وفوق ذلك كله وقبله، ما أكبر وصمة العار التي طبعت في جبين الولايات المتحدة، ودنست سمعتها على المستوى العالمي! فقد كانت الولايات المتحدة إلى عهد قريب، مثالاً لدولة المؤسسات والقانون، وصرحاً للعدالة والحرية، يتطلع إليه العالم بأسره• أما اليوم فقد انقلب الحال تماماً، وأضحى العالم ينظر إليها باعتبارها قوة وحشية، وأنها في سبيل تحقيق مصالحها الذاتية الضيقة، لا تتورع عن سحق كل من تسول له نفسه معارضتها، والدوس بأقدامها العسكرية الخشنة، على المصالح المشتركة للبشرية جمعاء، متى ما تعارضت تلك المصالح، مع الأهداف القومية الخاصة بأميركا! وربما صح القول إن ’’أميركا بوش’’ قد سدرت بعيداً••• بعيداً في غيها وعنجهيتها وصلفها، وأنه لا سبيل لإصلاح ما أفسدته إدارتها الحالية، وإن الأمل الوحيد لإصلاح ما فسد، يبقى عالقاً إلى حين وصول رئيس أميركي جديد إلى سدة الحكم، شريطة أن يتحرر هذا الرئيس من ربقة أشخاص على درجة من الخطورة والرعونة، من أمثال نائب الرئيس الحالي ديك تشيني، ووزير دفاعه دونالد رامسفيلد، إلى جانب التأثير السلبي الذي يمارسه حلفاؤهم وأعوانهم من المحافظين الجدد• وكان كل هذا التنمر قد بدأ في أعقاب الحرب الأفغانية، وعلى إثر اتخاذ الحكومة الأميركية قرارين على درجة من الانحراف والخطورة• يتصل أولهما بمصادقة التشريعيين الأميركيين، على منح الرئيس الأميركي -أثناء خوض الحرب- صلاحيات تخوله استخدام سلطاته التنفيذية، بما يتجاوز أية معاهدات أو نصوص قانون دولي ساري المفعول• ثم تفرع عن هذا التخويل الأول، تفويض ثان مفاده أن نصوص معاهدة جنيف الثالثة، لا تنطبق على أعضاء تنظيم ’’القاعدة’’ ولا مقاتلي حركة ’’طالبان’’ الأفغانية• وبموجب هذا التمييز، فقد صنف هذان النوعان من السجناء تحت مسمى ’’المقاتلون غير الشرعيين’’ وبذلك فقد أصبحوا حرفياً خارج دائرة القانون والعدالة، مما يعني قابليتهم المطلقة وغير المقيدة للاعتقال والتحقيق والاستجواب والتعذيب، والحبس لمدد زمنية غير محددة في زنازين الحبس الانفرادي، بل وحتى قتلهم• وكان المبرر الذي قدمته الإدارة لهذا الانتهاك الصارخ للقانون الدولي، هو ضرورة الحصول على المعلومات من هؤلاء السجناء بأسرع ما يمكن، منعاً لتعرض الولايات المتحدة لأي هجوم إرهابي جديد من قبل تنظيماتهم! والآن تهلهلت هذه الحجة وسقطت تماماً، ليس أقله في الولايات المتحدة نفسها• فبالاستناد على الحقائق القانونية البحتة، لا تبدو ممارسة التعذيب مجدية، بالنظر إلى عدم التعويل على البينات والاعترافات المنتزعة بواسطة الإكراه والتعذيب من المشتبه بهم• أما من الناحية الأخلاقية، فإن التعذيب هو المقابل الآخر للعار والانحطاط الأخلاقي، وهو أمر يصعب الدفاع عنه•

يذكر بهذه المناسبة، وفي إطار الاحتفال في العاشر من شهر ديسمبر الجاري، باليوم العالمي لحقوق الإنسان، أن لويس آربور المفوضة السامية للأمم المتحدة لحقوق الإنسان، كانت قد دعت كافة حكومات ودول العالم إلى تأكيد التزامها التام بنبذ وتحريم التعذيب• وحثت المفوضة السامية الحكومات والدول ذاتها، على الكف عن كل ما من شأنه الإساءة لحقوق وكرامة السجناء والمعتقلين• فهل ثمة من يستمع إلى ما تقول؟ هل تصغي واشنطن؟