نضال الخضري

قبل سنوات قليلة لم يكن موضوع الديمقراطية يحتاج إلى كثير من الجهد أو البحث في آلياته داخل معظم مجتمعات الشرق الأوسط، فالمطالبة بالمشاركة السياسية كانت حاضرة دائما في برامج الأحزاب، وعلى الأخص تلك التي عانت من احتكاك مباشر مع السلطات السياسية، ودخلت في مراحل من الصراع مع المؤسسات الأمنية.

ورغم ان التجارب الديمقراطية القليلة في الشرق الأوسط تحتاج إلى إعادة النظر لفهم مقاربتها لمفهوم المشاركة السياسية، لكن الأعوام القليلة الماضية أعادت صياغة مسائل التمثيل السياسي بحكم التجارب التي عاشتها معظم الدول، والأهم نتيجة التباس المفهوم الديمقراطي داخل ثقافة اجتماعية لها مكونات خاصة تعود إلى مراحل ما قبل الحداثة. ومن هذه الزاوية فإن الديمقراطية:

  تعكس أحيانا رغبة لا علاقة لها بالتمثيل السياسي أو المشاركة بقدر كونها محطة لتحقيق مسائل تؤكد "لبس الهوية". فالتجربة العراقية وقبلها الجزائرية تقدم مؤشرات أن الديمقراطية يمكن أن تتحول في ظل ظرف سياسية وفهم ملتبس إلى أزمة حقيقية.

  خروج الديمقراطية عن الإطار الذي يؤمن سوية واحدة لكل المواطنين، باتجاه حالات من الافتراق في الرؤية أو حتى في طبيعة الدولة وقدرتها على التعبير عن هذه السويات.
  التباس النظر بين الديمقراطية كنظام سياسي للدولة وبين الموقف الاجتماعي الذي يمكن أن يكرس حق الاختلاف بشكل يمس وحدة الدولة وشكلها الحقوقي المعبر عن المجتمع.

  اعتبار الديمقراطية الحل الأساسي لمعالجة مشاكل تاريخية داخل المجتمع، باعتبار أنها قادرة على توحيد الهوية الاجتماعية، بينما يبدو من التجارب الغربية على الأقل أن وحدة الهوية الاجتماعية هو الذي ينتج الديمقراطية وليس العكس.
  الإصرار على استخدام الحل الديمقراطية بشكل مطلق وفصله عن استحقاقاته المتعلقة بنظام الدولة الذي يضمن سوية واحدة للمواطنين مثل فصل الدين عن الدولة، وخلق نظام تعليم قادر على دمج الأجيال ضمن انتماء اجتماعي واحد.

  اعتبار التنوع الثقافي إطار موضوعي لفهم الضرورات الديمقراطية داخل حدود الدولة الجغرافية، وبالقدر الذي يمكن أن تقدمه الديمقراطية من دعم لهذا التنوع فإنها أيضا تصبح عامل افتراق عندما يتحول التنوع الثقافي إلى مفاهيم محددة داخل الجغرافية السياسية، فتصبح الديمقراطية وسيلة الصراع على هوية الدولة بشكل يسهل تجزئتها أو تفتيت مكوناتها الأساسية.

ليس هروبا من الديمقراطية

إن اعتبار "الديمقراطية" وما يترتب عليها من نتائج أو إجراءات يشكل أزمة بالنسبة للوضع السوري لا يعفينا من التأكيد بأنها ضرورية وواجبة لعلميات التطوير الاجتماعي، ولضمان الاستقرار والارتقاء بحياة الناس والدولة، كما انها – وهو الأهم – الضمان الأول لكل مشاريع التطوير ولعلميات المواجهة التي تخوضها سورية وسط عالم متبدل.

ونحن هنا نحاول فقط تحديد الأسئلة التي يمكن أن تحدد المسار الديمقراطي، وتتيح للمجتمع السوري خوض تجربته الخاصة بعيدا عن الضغوط والمحاولات التي تريد اجتزاء التجربة الديمقراطية إلى جملة إجراءات فقط، مع التأكيد مرة أخرى أن المسألة ليست اختيارا بين نظام استبدادي وآخر ديمقراطي، فأمام الحياة المعاصر ليس هناك سوى طريق واحد هو التعامل بالحداثة واعتبار أن الديمقراطية هي الأسلوب الذي يحكم المجتمعات البشرية.

1 – إن أي تجربة ديمقراطية في سورية يجب أن لا تنظر إلى الخلف عندما تريد وضع تصور جديد للديمقراطية، فتجارب الأمس يمكن أن تُستلهم لكن لا يمكن استراجاعها، فمرحلة الليبرالية التي خاضتها سورية بعد الاستقلال لا تشكل معيارا، وهي أيضا حالة غير مستقرة كانت فيها القوى السياسية تتعامل مع "الديمقراطية" كمفهوم بكر، ثم تتداخل الأمور بشكل كبير مع انتشار الأحزاب الإيديولوجية ونجاحها في الوصول إلى البرلمان.

2 – ضرورة عدم القيام بأي تجاوز تاريخي جذري عند البحث في مشروع وطني لتجذير الديمقراطية في الحياة السياسية. فتجربة "الديمقراطية المركزية" منذ عام 1963 ليست شأنا عابرا، وهي مع إسقاط نظريتها على المجتمع خلقت تطابقا في المفاهيم ما بين الدولة والسلطة السياسية ... وحتى المجتمع. فالحزب قائد الدولة والمجتمع وهو أعاد رسم المجتمع بمصالحه وفق هذا الدور.

3 – الأخذ بعين الاعتبار أن المرحلة التاريخية منذ عام 1963 وحتى نهاية القرن العشرين لم تشهد ظهور أي تيار أو حزب سياسي يملك رؤية كاملة للمفهوم "الديمقراطي" في إطار خارج عن الشمولية. فالصراعات السياسية كانت مقتصرة على أحزاب شمولية راديكالية في معظم الأحيان. وباستثناء تجارب باهتة في مسألة حقوق الإنسان فإن معظم "الليبراليين الجدد" ينحدرون من تشكيلات ماركسية أو إسلامية راديكالية.

4 – الخارطة السياسية اليوم غير واضحة تماما لأن المعبر عنها ليست أحزاب بل تحركات نشطاء، بينما يحكم الشارع المرجعيات المعرفية التقليدية التي تظهر بقوة في عاطفة الشارع، لكنها وضمن اللحظة الحاضرة غير قادرة على خلق تعبئة منظمة. فهي بالفعل انعكاس ثقافي وليس صورة سياسية كاملة.

5 – عدم التعامل مع الديمقراطية على أنها "حل دولي"، أو سياق أمريكي فقط كما يطرحه "ناتان شارنسكي". فإذا كان صحيحا أن كتابه (قضية الديمقراطية) حسب قول جورج بوش هو DNA السياسة الأمريكية، لكن هذا المطب يضع الشعوب أمام خيارين خارجين عن الإرادة الاجتماعية: الاستبداد أو ديمقراطية التغير الثقافي المطروحة من قبل الإدارة الأمريكية ... وتحديدا المحافظين الجدد.
الدخول إلى الديمقراطية

عمليا فإن أزمة الديمقراطية والتباسها ينبع اليوم من:
  غيابه الحقيقي لأكثر من أربعة عقود، في وقت تعقدت فيه مصالح المجتمع ولم يعد المطلب الديمقراطي بصيغه التقليدية أو "اعتباره" شعارا أو لازمة لكل تحرك سياسي كافيا لوضعه في مجال التطبيق العملي.

  ظهور واقع في الجغرافية – السياسية (الأكراد تحديدا) تصبح معه الديمقراطية حالة حساسة جدا يجب التعامل معها وفق وضوح في كافة الإجراءات مع وضع مجال سياسي لها وعدم تركها تتفاعل بشكل عشوائي ودون هدف يجعل تطورها وسيلة لارتقاء الرابط الاجتماعي.

  إن عدم وجود خبرات تقنية في التعامل مع الإجراءات الديمقراطية يتيح عمليات التدخل الواسعة من قبل المنظمات الدولية الرسمية أو المدنية. ومع احتياج المجتمعات ومؤسساته لتلك الخبرات فإنها يمكن أن تصبح أدوات ضغط على المجتمع إذا لم تكن ضمن إطار مشروع وطني واضح المعالم.

  أخيرا فإن الديمقراطية تحتاج لمؤسسات مدنية واسعة المهام داخل المجتمع، وليس مجرد مؤسسات ذات صبغة سياسية لا تملك مصالح داخل المجتمع. من هنا نجد أن القوى في المجتمع السوري تتبع في كثير من الأحيان "مؤسسات اقتصادية" بغض النظر عن قدرة هذه المؤسسات عن التعبير عن مصالح متشابكة في وطن مازال في مراحل الانتقال ما بين ثقافة القرون الوسطى وحالات الحداثة الأولية.

الأسئلة المفتوحة:

بمراجعة سريعة لتحرك المعارضة والحكومة السورية خلال السنوات الخمس الماضية فإننا نجد أن درجة التعقيد التي فرضها الوضع الإقليمي كان يواكبها أيضا تطورات مركبة أيضا في الداخل السوري، وضع المسألة الديمقراطي على خيارات مهتزة يمكن تلخيصها وفق التالي:

أولا – بالنسبة للحكومة السورية: فإنها وضعت أولويات في الإصلاح لم يكن الإصلاح السياسي في مقدمتها وذلك على اعتبار أن الإصلاح الاقتصادي ومن ثم الإداري يمس الشرائح الاجتماعية الأوسع. وواضح من هذا الخيار أن المؤسسات السياسية الرسمية كانت تعرف سلفا عدم وجود طاقة اجتماعية للأحزاب السياسية المصنفة كـ"معارضة". لكن هذا الخيار وضع الإصلاح على مقياس واحد حتى ولو تم التداول بشكل "عام" بمسألة الإصلاح. لأن "التداول" إذا لم يكن قائما على مؤسسات خارج السلطة ولها موقفها العام فإنه يبقى معبرا عن اتجاه واحد.

ثانيا – بالنسبة للنشطاء السياسيين: فإنهم تعاملوا مع الديمقراطية وكأنها رمية سحرية وليست استحقاقا على الأرض. فهم مع وجود برنامج واحد هو "الديمقراطية" لم يكلفوا أنفسهم عناء البحث عن الآليات القادرة على تنفيذ الديمقراطية مع كافة الحساسيات التي رافقت هذه المرحلة. والمشكلة الأكبر أنها اعتبرت نفسها "معبرة" عن كافة المصالح الاجتماعية في وقت ظهر واضحا أن مفاهيمها مازلت ملتبسة ما بين الثمانينات واليوم.
ضمن هذا العرض المختصر فإن أزمة الديمقراطية لا تحتاج فقط إلى التعامل السياسي فهي مجال بحث يدفع الجميع إلى التعامل بشكل جدي مع هذه المسألة لمنع التدخل بها بشكل عشوائي على سياق شارنسكي أو "الفرصة" الديمقراطية لريتشارد هاس.