يدعيوت أحرونوت

شارل ديغول، مؤسس الجمهورية الخامسة والرئيس الاسطوري لفرنسا، قال ذات مرة إنه بما أن السياسي لا يصدق نفسه أبداً، فإنه يتفاجأ دائماً عندما يصدقه الآخرون. وفي السياسة الاسرائيلية ايضاً لا يصدق السياسيون أنفسهم، لكنهم كفوا عن أن يكونوا متفاجئين. فالأسابيع الأخيرة رفعت إلى مستويات جديدة درجة الحضيض الذي بلغته السياسة الاسرائيلية: شمعون بيريس، حاييم رامون، داليا ايتسيك، عوزي لنداو، تساحي هنغبي وشاؤول موفاز ، عناصر مسيرة اللافخر، وهم على ما يبدو ليسوا الأخيرين في هذه السلسلة المهينة.

الأمر المثير للغضب في كل هذه التطورات هو خيانة الثقة التي حصلت في وضح النهار من دون خجل من قبل هذه الشخصيات. فمن دون أي صلة بالحزب الذي أتوا منه والتصور الايديولوجي الذي يحملونه، يدفع النفاق المتقن الذي يتركون بموجبه اطاراً حزبياً معينا للانضمام إلي اطار حزبي آخر، إلى إثارة الغضب في أوساط جمهورمستمعيهم ومشاهديهم، ناهيك عن جمهور مؤيديهم وأتباعهم.

المضحك في تدحرج هذه الأحداث السخيفة هو المعين الذي لا ينضب للاكتشافات، الذرائع والتفسيرات لهذا التحول البهلواني. اذ يمكن العثور دائماً على مستودع مذهل من الأسباب. لكن لن يُقال يوماً من قبل أي ممن يتجاوز خطوط القانون: "اعتقدت أنه لا فرصة لي للدخول، عندها قررت الانتقال". ما من أحد يعتذر. والأمر المخيف في هذا التصعيد على مستوى انهيار الخارطة الحزبية، هو أن هذه الدوامة ستؤدي إلى ضياع كلي للسياسة الاسرائيلية. ومن دون أي صلة باليمين أو اليسار، بالليبراليين أو المحافظين، بالقوميين والاشتراكيين، بالصقور والحمائم، ستنشأ دائرة مبهمة من المفلسين الايديولوجيين الذين ينتقلون من كرسي فارغ إلى كرسي فارغ حتى انتهاء الحفلة.

لقد اعتقد الرئيس الأميركي ابراهام لينكولن انه يمكن خداع قسم من الناس دائماً، ويمكن خداع كل الناس لمدة من الزمن، لكن لا يمكن خداع كل الناس دائماً. وفي السياسة الاسرائيلية كل الاحتمالات سارية المفعول. فالمساعدون المخلصون للسياسيين، مقابل كل الجمهور، يمارسون التضليل طوال الوقت؛ في أوقات الحرب والأزمة يتم تضليل كل الجمهور ولو لفترة زمنية قصيرة، وقبيل الانتخابات يتم تضليل كل الجمهور كل الوقت إلى حين الوصول إلى صناديق الاقتراع.

كيف يقع الجمهور الاسرائيلي مرة تلو الأُخرى في مصيدة الحماقة هذه؟ هل في الأمر سذاجة؟ هل في الأمر حماقة؟ هل هو نابع عن اليأس؟ أو ربما ثمة مازوخية؟ فهذا التواصل والاستمرار الذي يحصل وفقه التضليل وينجح فيه يدل على أن كل الأسباب المُشار إليها آنفاً صحيحة. فالناخب الاسرائيلي ساذج، أهبل بعض الشيء، فاقد للأمل ويحب المعاناة. فالضائقة وعدم اليقين اليومي، السطحية والتصنع في تحليل القضايا المطروحة على بساط البحث والركض وراء مخلص مطلق القدرة، كل هذه الأمور تسمح في كل مرة بالسجود الدوري من جديد.

انه الجهاز ذاته الذي يشجع رجال العسكر، رجال الأعمال وكل الأشخاص على اتخاذ قرار الانضمام إلى السياسة من دون أن يكون لهم وجهة نظر، لأنهم يشعرون بالضائقة التي تدعو إلى ظهور بطل، ولأسفنا، يعتبرون أنفسهم أبطالاً. التضليل اذا هو تضليل ذاتي، والكذب طوعي. في مثل هذا الواقع السياسي التهريجي، لا شك في أن السحرة والبهلوانيين يحتفلون. ومثل هؤلاء الأبطال الخارقين لم يسمحوا لأنفسهم في أن يكونوا مقيدين بواسطة ايديولوجيا، حزب أو الوفاء لكلمتهم.

الأول إلى الخيار الثاني. ففجوة الثقة بين الناخب والمُنتخب آخذة في الاتساع بحيث يكون من الصعب جسرها. في السياسة لا يوجد فراغ؛ فاذا تنازل الناخبون الاسرائيليون عن مشاركتهم، فثمة من سيأخذ منهم حق تحديد مصيرهم. والانفجار الكبير للمنظومة السياسية الاسرائيلية قد يكون ايضاً الانفجار الأخير.