المستقبل ، ماجد كيالي

ينحو الخطاب العربي السائد إلى تفسير تفوّق إسرائيل على الواقع العربي بتفوقها في المجالات العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية وتمتعها بعلاقات خاصة مع الولايات المتحدة الأميركية، وبمعنى آخر فإن هذا الخطاب كان يغفل وبالأحرى يحجب، العوامل الذاتية التي تضفي على إسرائيل قوة مضافة تجعلها قادرة على تجيير عناصر تفوقها هذه وتحويلها إلى عوامل قوة.
اللافت ان إسرائيل هذه التي نشأت قبل عدة عقود، تبدو أكبر من حجمها وأكثر قوة من امكاناتها وأفضل استقراراً من غيرها، خصوصاً بالقياس لحال الكيانات العربية السائدة على الرغم من تحدياتها وتناقضاتها الداخلية والخارجية، وبالذات على الرغم من تداعيات الصراع العربي ـ الإسرائيلي عليها!.
وما ينبغي الاعتراف به هنا هو ان إسرائيل على الأرجح، مدينة بهذا التميز وبالقدرة على الاستقرار والتطور، إلى عاملين رئيسين: الأول يتمثل بكيفية تأهيلها وإدارتها واستثمارها لمواردها البشرية (على رغم محدوديتها العددية)، فمثلاً يبلغ حجم الإنفاق على الفرد في إسرائيل في مجال التعليم نحو 1200 دولاراً، في حين انه في العالم العربي يبلغ نحو 110 دولارات، علماً ان الاحصائيات تؤكد وجود نسبة أمية تعادل 40 بالمئة في العالم العربي!، أما حصة الفرد الاسرائيلي من الانفاق على التعليم فتبلغ نحو 500 دولار، علماً ان نسبة الانفاق على البحث في اسرائيل تبلغ 2.5 في المئة من ناتجها السنوي الذي يقدر بنحو 120 مليار دولار، بالمقابل فإن حصة الإنفاق على الفرد في العالم العربي في مجال البحث والتطوير لا تزيد عن 8 دولارات، وتمثل 3 مليارات من الدولارات وهو ما يعادل المبلغ الذي تنفقه إسرائيل سنوياً في هذا المجال مع الفارق البيّن بالنسبة لمجموع السكان!. وبالإجمال فإن البيئة الإسرائيلية (برغم كل ما يحصل)، هي بيئة جاذبة للاستثمارات المالية وللكفاءات من المهاجرين اليهود في حين تبدو البيئة العربية (السياسية والاقتصادية والاجتماعية) بيئة غير جاذبة (بل طاردة!) في هذين المجالين، فثمة أكثر من ألف مليار دولار من الأموال العربية تستثمر خارج العالم العربي، وبحلول العام 1976 ثمة واقع هجرة لنحو 23 في المئة من المهندسين و50 في المئة من الأطباء و15 في المئة من جميع الشهادات الجامعية من البلدان العربية، إلى بلدان المهجر (أوروبا والولايات المتحدة وكندا واستراليا) بحسب تقرير التنمية الانسانية العربية (2003).
وبحسب بحث موضوعه "ميزان الثروة الفكرية" يتبين ان عدد المهندسين في إسرائيل هو الأعلى في العالم: 135 مهندساً لكل عشرة آلاف عامل. الولايات المتحدة في المكان الثاني مع 70 مهندساً، ثم اليابان 65، وهولندا 53، وسويسرا 38. ومن ناحية العلماء وذوي الخبرة التقنية تدرج إسرائيل في المكان الأول مع 140 عالماً وتقنياً لكل عشرة آلاف عامل، الولايات المتحدة بعد إسرائيل مع 83 عالماً وتقنياً وبعدها اليابان 80 فألمانيا 60 فسويسرا 55. وبحسب أليشع يناي رئيس رابطة شركات الالكترونيات، أصبحت إسرائيل وادي السليكون، "لا يجب أن تقاس بالولايات المتحدة كلها، بل بمناطق هاي تيك معينة مثل وادي السليكون في كاليفورنيا، ومنطقة الهاي تيك في بوسطن ومنطقة الهاي تيك في تكساس. في مقايسة كهذه، توجد إسرائيل في المكان الثالث العام، لا فقط النسبي للمهندسين والقوة العاملة التقنية". (يديعوت احرونوت 20/11/2005).
أما العامل الثاني الذي تتميز به إسرائيل، ويضفي عليها قوة مضافة تمكنها من استثمار مواردها (المادية والبشرية) بشكل أفضل، فيتمثل بطريقة إدارتها لأوضاعها ولمجتمعها، وبنظامها السياسي الديموقراطي (بالنسبة لمواطنيها اليهود). فبفضل هذه الإدارة وهذا النظام تتمكن إسرائيل من تجاوز نقاط ضعفها (محدودية المساحة وعدد السكان وعداء المحيط)، مثلما تتمكن من السيطرة على تناقضاتها ومشكلاتها الداخلية وتوجيهها للخارج؛ على عكس الواقع العربي الذي يعيد إنتاج علاقات الضعف والتهميش. وللمفارقة فإن التميز الإسرائيلي في هذا المجال هو ما تفتقده حال الكيانات العربية، وهو نقطة ضعفها بالقياس للامكانيات الكبيرة التي تمتلكها: المساحة ـ الكثرة العددية ـ الثروة النفطية، عوامل تكوين الأمة؛ وذلك بسبب تخلف النظام السياسي والطريقة السلطوية في إدارة الدولة والمجتمع!.
وهذا في الحقيقة ما يفسر ان السياسة العربية تقصر عن مواجهة التحديات التي تمثلها إسرائيل سواء كانت في حال أزمة أم من دونها. والجدير ذكره ان النظام السياسي الديموقراطي في إسرائيل (بالنسبة لمواطنيها اليهود) يقوم على نظام المشاركة السياسية والفصل بين السلطات وعلى الانتخابات النسبية والدائرة الواحدة، والتعددية والتنوع، والاحتكام لصناديق الاقتراع لحل القضايا الخلافية، ما يكفل لكلّ التيارات والجماعات والأحزاب السياسية والاثنية (مهما كان حجمها) التعبير عن ذاتها، ويكفل لها حقها في الوصول إلى مقاعد الكنيست الإسرائيلية.
هكذا فإنه ينبغي الاعتراف بنقاط التميز الإسرائيلية لإدراك نوعية ومستوى التحديات التي تمثلها إسرائيل للواقع العربي للعمل لتداركها وتجاوزها.
ويستنتج من ذلك ان تحدي إسرائيل للعالم العربي لم يقتصر البتة على المجال العسكري فقط (ولا على التفوق الاقتصادي والتكنولوجي فحسب)، بقدر ما هو أيضاً نتاج التمايز في مجالات النظام السياسي وإدارة الموارد البشرية والمشاركة السياسية. والواقع فإن النظام العربي السائد طوال أكثر من نصف قرن، استمرأ التركيز على التحدي العسكري (دون تداركه)، محاولاً في ذلك تبرير طبيعته العسكرية (الأمنية)، وحجب التحديات الحقيقية الأخرى. فإلى متى؟.