النهار ، سركيس نعوم

يعتبر كثيرون ان المشكلة الحالية في البلاد التي تعوق الاستقرار السياسي وتبقي الاستقرار الأمني هشا هي مشكلة مجموعة "الثامن من آذار" التي تشكل الطائفة الشيعية بحزبيها الكبيرين حركة "امل" و"حزب الله" عصبها الاساسي باعتبار ان المشاركين غير الشيعة فيها لا يقدمون كثيرا ولا يؤخرون كما يقال، وخصوصا بعدما تقلصت الاجواء الداخلية والاقليمية التي مكنت بعضهم من السيطرة على الساحة السياسية رغم افتقاره الى القواعد الشعبية الكبيرة. وهم يعزون هذا الاعتبار الى جملة امور، لعل ابرزها اعتدادها بقوتها السياسية والشعبية والعددية وسلاحها وعمقها الاقليمي المعروف وتصرفها سواء في مجلس النواب او في الحكومة التي هي جزء منها او حتى في البلاد بطريقة توحي انها الوحيدة القادرة على الاعتراض والرفض وعلى ممارسة حق النقض وتوقيع صكوك الادانة والتبرئة او التخوين والوطنية. والامران ساهما الى حد بعيد في تعقيد امور الحكومة الحالية في مرحلة هي غاية في التعقيد.

لكن هذا الاعتبار على وجاهة بعض مكوناته ليس صحيحا في المطلق. فمجموعة "8 آذار" تصرفت في كثير من المفاصل بحكمة وعقلانية الامر الذي جنب البلاد الاسوأ بعد استشهاد الرئيس رفيق الحريري. كان ذلك عندما ادركت بعد تظاهرة 14 آذار التي فاقتها عددا في الشارع ان الاعتماد على العدد وحده في السياسة اللبنانية لا يجوز وخصوصا اذا ادى الظلم او بالاحرى اذا ادى توسعه الى تجميع المستهدفين به من كل الطوائف والمذاهب او من معظمها. وادركت ان الاستعلاء لا يجوز رغم استمرار البعض من القيادات الوسيطة في ممارسته سواء بالاستناد الى العدد او الى السلاح الذي هو في الاساس سلاح مقاومة ضد اسرائيل وسلاح حماية للبنان من اي طامع ايا يكن، وهكذا يجب ان يبقى. وكان ذلك عندما اتخذوا مواقف حازمة سلبية من بعض اطروحات الغالبية في مجلس النواب وفي الحكومة من دون ان يقفلوا الباب امام تسوية او تسويات لها في الاوقات المناسبة. وقد يكون ذلك نتيجة عدم قدرة على مواجهة الظروف الاقليمية "المُفضلة" عليها وعلى لبنان في موضوع التحرير من اسرائيل او عدم رغبة في مواجهتها مع اقتناع بان العقل لا بد ان يسود عند اصحاب هذه الظروف وكذلك عند اللبنانيين او بانها ستتغير من دون الحاجة الى موقف لبناني من جراء تشبث المجتمع الدولي بمواقفه اللبنانية المعروفة. وهذا الامر على القلق الذي اشاعه في نفوس اللبنانيين لم يقض على الامل بوجود امكانات او احتمالات للتفاهم بين الداخل وتحديدا بين مجموعتي 8 آذار و14 آذار. ولو لم تكن الحكمة والعقلانية سائدتين عند المجموعة الاولى لما كان مر ما حصل في مجلس الوزراء قبل يومين (المطالبة بمحكمة ذات طابع دولي وبشمول التحقيق الدولي جرائم اغتيال عدة في لبنان) بشيء من الهدوء. طبعا قد يقول البعض ان جريمة قتل الزميل الشهيد جبران تويني هي العامل الكامن وراء الهدوء الأخير لـ "8 آذار" وان رد الفعل الفعلي لهذه المجموعة على قرارات مجلس الوزراء وعلى امور اخرى ستظهر كلها بعد فترة غير طويلة. وقد يكون هذا القول صحيحا، لكن الصحيح ايضا ان العصب الاساسي لـ"8 آذار" لبناني وليس له الا لبنان وطنا يعيش فيه بحرية وكرامة في هذه المنطقة من العالم. وهو يعرف ان ممارسته هذا النوع من العيش لا يمكن ان يتحقق الا اذا مارسته "الشعوب" اللبنانية الاخرى، واسفر ذلك مع الوقت عن دولة ديموقراطية حضارية سيدة ومستقلة اساسها المساواة والعدالة والحرية. مع الاشارة الى ان المساواة والعدل لا يعنيان ابدا الشلل وخصوصا في المؤسسات.

اذا لم تكن المشكلة في "8 آذار" او بالاحرى اذا لم تكن كلها في "8 آذار" فأين هي اذاً؟

انها في مجموعة "14 آذار" على حد متابعي الوضع اللبناني من قرب وخصوصا بعد الانقسامات او على الاقل التصدعات التي اصابت بنيانها لاسباب قد لا تكون كلها وطنية. اذ لا يستطيع احد ان ينكر الحسابات الخاصة والفئوية واحيانا الشخصية عند كثير من مكونات هذه المجموعة الامر الذي ادى الى امور بالغة السلبية ابرزها انقسام 14 آذار فريقين متصارعين واضعف ذلك جبهة المطالبة باستكمال استعادة لبنان الوطن الديموقراطي والحر والسيد والمستقل وشجع المتضررين من هذه الاستعادة على التجرؤ بل على العودة الى الساحة بعد انكفاء معتمدين ليس فقط على الحليف الشيعي القوي بل ايضا على الانقسام المذكور وعلى بعض قوى 14 اذار.

والمشكلة هي الآن تحديدا ودائما في رأي المتابعين انفسهم عند مسيحيي 14 آذار. فهؤلاء اليوم قسمان يتنازعان مجد صناعة استعادة الاستقلال والسيادة وايضا صناعة الاحجام السياسية والشعبية ومستلزماتها من مواقع سلطوية. فـ"التيار الوطني الحر" الذي اسسه ويقف على رأسه اليوم العماد ميشال عون جمهوره مسيحي في معظمه رغم كلامه وكلام غيره على اللاطائفية ونجاحه في اختراق الطوائف والمذاهب الاخرى والذي يبقى محدودا جدا حتى في حال حصوله، وهذا الجمهور راديكالي ومتشدد في كل شيء. وهو قد يكون سار وراء عون بسبب راديكاليته وتشدده في الداخل ومع الخارج منذ عام 1989. لكن خطاب قائده اليوم جيد وللكثيرين ليس وسطيا - علما ان الوسطية مطلوبة كنقطة التقاء - بل محير. فمن جهة يتمسك بمواقف معينة بعضها ذو بعد داخلي وبعضها ذو بعد خارجي. ومن جهة اخرى ينفتح على جهات داخلية منفتحة على جهات اقليمية. وهذا امر مطلوب من حيث المبدأ ولا احد يمانع فيه. لكن التردد الذي يرافقه مخيف. فلا التيار قادر على اقناع "8 آذار" بمعظم مواقفه، ولا "8 آذار" قادر على اقناع التيار بمواقفه. وكل ما يجري اليوم قد يكون محاولة لايجاد تفاهم ما قصير الأجل لمواجهة الاخرين. اما الجهات المسيحية الاخرى في 14 آذار من احزاب وشخصيات سياسية، فلها رصيد عند المحمديين وعند النخب وبعض "الشعب" في الوسط المسيحي. ولها مواقف واضحة من كل الذي يجري. لكنها تتردد اما لاسباب تتعلق بمواقع معينة واستحقاقات مقبلة واما لخوف من خسارة كاملة لشعبية مسيحية لا يستطيع من دونها اي مسيحي سياسي الوصول الى موقع ما. والامر نفسه عند المسلمين. وكان عليها بل عليها الآن ان تختار، وان تدافع عن الموقف الذي تؤمن به ايا تكن التضحيات السياسية وحتى الجسدية، وعلى تيار العماد عون ان يختار ايضا اما التحالف مع الثنائي الشيعي او احدهما. وذلك ليس عيبا فهو على الاقل يؤسس لتيار لبناني مخترق للقوانين والمذاهب. واما العودة الى "14 آذار" مع كل الحقوق التي تفرضها زعامته الشعبية الواسعة ولكن من دون ادعاء او حصرية لاستكمال استعادة الوطن بكل مقوماته.

طبعا نحن ننطلق من هذا الموقف من فكر لاطائفي ومن حرص على لبنان بجميع "شعوبه" وليس من مواقف "مسبقة" من احد. والخوض فيه اليوم اي بعد يومين من استشهاد جبران تويني لا يمس ذكراه العطرة بل يصب في الجهود التي طالما بذلها لتوحيد الصفوف المسيحية ثم الصف الوطني من اجل لبنان.