أفقتُ متأخراً على غير عادتي,ما همّ.. بعض النعاس جميلٌ ما دام العمل سيأخذ في هذا النهار الكانوني القائظ الليل كله, لم أكد أُدير التلفزيون حتى كان خبر الانفجار , قلت الله ينجيّنا, ثم يأتيك خبر اغتيال جبران تويني ..هكذا تنجّرُ الخوازيق ببطء وتؤدة في هذا البلد المفتوح على الموت..بدأ الهاتف يرن والأصدقاء يتصلون للاطمئنان ,فهذا طريق أسلكه أحيانا وأنا نازل من أعالي المتن الشمالي..لكن عقلي انحاز إلى غسان تويني ,الأب الذي فقد ابنه مكرم وزوجته ناديا وها ..ابنه جبران ,محاولاً تعزيته في قلبي ومستكنهاً مشاعر حزنه الدامي...‏

سأقول لكم بأنني لم أحبب جبران تويني يوماً , لا بل كنت أعتبره وصولياً ومتقلباً ,عكس ما يشيعونه عن ثباته في الرأي, وكنت أعتبر خطابه ديماغوجياً ومقالاته خطابات خشبية, أعلم أن الكثيرين سيستغربون..لكنني لا أنتهك حرمة الموت أبداً ,بل أقول الأمور كما أحس بها. لقد نقل جبران تويني خياراته خلال الحرب اللبنانية وداخل )الصف المسيحي) بين الأقوياء حسب موقعهم الزمني من بشير الجميل إلى إيلي حبيقة وسمير جعجع ثم ميشال عون ورفيق الحريري , وجميعنا يعرف أنه لم يتورع عن طلب مقابلة غازي كنعان للوصول إلى النيابة في عهد (الوصاية السورية) وصولاً إلى العشق المستجد لآل الحريري.‏

هذا شيء..أما أن يضع قاتلٌ سيارة مفخخة لكائن بشري ,أيّاً كان, ..أن يُقتل صحافي بأربعين كيلو غراما من المتفجرات وهو ذاهب ليكتب رأيه, أيّاً كان رأيه ,فإن هذا يجعلني غاضباً وأتميز غيظاً وأنحاز إلى الضحية, وأهلها الثكالى.‏

لكن للكارثة توابعها,وبعيداً عن الأسى ,وقبل أن يدفن الرجل , هلاّ سألنا خاله مروان حمادة من أين درايته المستمرة وعلمه الطويل بهوية واضعي المتفجرات , وسألنا وليد جنبلاط وهو يهتز على كرسيه قلقاً ,ما مشكلته مع )النظام السوري) وكيف استطاع بهذه الفهلوة, كما فهلوة معرفته الصاروخية بقتلة رفيق الحريري , هلاّ سألناه من أين تأتيه النبوّات الشقية? . من أخبر القتلة أن ديك النهار عائد ليلاً من باريس , ونازل بعد ارتفاع الشمس في قبتها إلى الجريدة, كي يسرع بوضع سيارة مفخخة?. هل اجتمع جبران مع سوريين في باريس?. أم مع الأكثرية التي كتبت على عجل , أو دبجت بياناتها بروية مسرعة في طلب محكمة دولية, بعد فشل سابق في طلبها قبل أن يشتاق ميليس لزوجته, ويصبح مدعياً عاماً دولياً يجلس على رقبة لبنان? .‏

هل سألنا وليد جنبلاط أين كان ضميره طيلة السنوات التي كان يستفيد فيها من النظام الأمني السوري اللبناني المشترك ?وكيف بات الاقطاعي الديمقراطي الاشتراكي البرجوازي الرأسمالي المتحفجي القارئ الفهيم المحقق العدلي الوحيد في لبنان ..ناشر الديمقراطية الاستنسابية في دول الجوار?.‏

يبدو الخوف على محيا وليد بيك ويتبختر الحقد على محيا مروان حمادة , وها نحن نتقلب في الموت بين متوتر وحاقد وطالب ثأر ..وخذ يا لبنان ما يعجبك.‏

اتصلت بصديق للمرحوم كي اطمئن عليه , فقال لي حزيناً وغاضباً ..غداً سأذهب لأطلب فيزا هجرة من السفارة الأمريكية ,هل أقدم لك طلباً ونخلص من هذه البلاد..فكرّت قليلاً بحالي ,وعاد إلى خاطري غسان تويني ,وأجبت : عمري في هذه البلاد الشقية عشرة آلاف عام فأين تريدني أن أبدأ الآلاف العشرة الثانية?.‏

غداً سأنزل إلى ضريح جبران تويني لأضع وردة ..نكاية بالقتلة وبالموت,وحفاظاً على احترام حرية الرأي وحرية الآخر في أن يرى ويقول ما يشاء.. غداً سأتابع ما سيكتبه غسان تويني..لأرى كيف يتجاوز هذا الختيار المحنة ونبقى جميعاً في هذه البلاد لآلاف من السنين قادمة...‏