الحياة ، عزمي بشارة

لم يقع في إسرائيل زلزال سياسي بإقامة حزب شارون الجديد. فإقامته تعبير عن مزاج وموقف سياسيين قائمين في اليمين منذ الانتفاضة الأولى. اذ وصلت أوساط واسعة من اليمين الإسرائيلي إلى قناعة مفادها أن إسرائيل بحاجة إلى قيام كيان فلسطيني، يخلص إسرائيل من عبء ديموغرافي من دون أن تصل إلى قناعة موازية بأن إقامته تتطلب الانسحاب إلى حدود الرابع من حزيران 67 أو إزالة المستوطنات «حتى آخر مستوطنة» (هذه حرفية العبارة العبرية)، ناهيك عن حق العودة. والحزب الجديد هو تعبير عن هذه القناعة المنسجمة مع مواقف الإدارة الأميركية التي باتت رسمية ومعلنة مع رسالة الضمانات الى شارون من نيسان (ابريل) 2004 الإدارة الأميركية. وهو تعبير أصفى من ذلك الذي يقدمه ليكود بتشكلاته الأخيرة التي تشمل عناصر من عتاة المستوطنين مثل موشيه فايغلين كما تشمل أدلجة لا بد منها لصراعات حزبية داخلية من نوع الصراع الحزبي بين نتانياهو وشارون.

تشكيل حزب في مثل هذه الحال، عشية انتخابات، وبعد نقاش سنوات وخلافات كشفتها خطة فك الارتباط، هو أمر شرعي من منظور السياسة الحزبية البرلمانية. لكن غير الشرعي هو الاستنتاج من ذلك أن شارون قد تغير أو أن هنالك تحولاً نحو الحل والسلام العادل في السياسة الإسرائيلية. وغير الشرعي هو أدلجة العجز العربي عبر الادعاء بأن هناك تغيراً لدى شارون يمنح العرب فرصة يجب ألا يفوتوها. وحسب هذه التقليعة فإن العائلة الحاكمة في دولة عربية، كما يبدو من بعض تصريحات و»اجتهادات» أقطابها في الإعلام، منقسمة بين «تيارين»: احدهما يراهن على التغييرات لدى شارون الذي يجب «ان يمنحه العرب فرصة» (كأن هنالك من يمنعه أصلاً)، و»تيار» آخر يرى أن عمير بيرتس هو تجسيد للأمل. ولا حول ولا قوة الا بالله!

ليكن محور نقاشنا ما هو غير شرعي من منظور نظرية الديموقراطية، فهذا أسلم. وما هو غير شرعي في ما يجري في الخارطة السياسية الإسرائيلية من زاوية الديموقراطية البرلمانية هو ظاهرة الانحلال الحزبي لصالح شخصنة السياسة. وتتجسد السياسة بمعناها الجديد في فعل كل ما يلزم لكي يحافظ السياسي على موقعه أو يتقدم، أو يتسلل نحو منصب يمكنه من المشاركة في عملية صنع القرار، أو على الأقل من التظاهر بذلك. وكل هذا بغض النظر عن الحدود الحزبية والبرامج السياسية والمواقف الأصلية التي على أساسها انتخب السياسي للبرلمان.

المقصود إذاً بشخصنة السياسة هنا ليس موضعتها في أشخاص أفذاذ، أو شخصيات عظيمة، أو قادة أحزاب كارزماتيين، بل المقصود هو العكس تماماً. الظاهرة المقصودة في هذه المقالة هي تحول الطموحات الشخصية والنزوات المحسوبة عند السياسي العادي المتوسط الوصولي المهني المحترف، وهي نقيض الكاريزما والزعامة، إلى بوصلة العمل السياسي وذاته الفاعلة الأكثر أهمية والعابرة للأحزاب.

يتحول الصحافيون في هذه الحال الى مجرد راصدين لحركة السياسي، هل يترك حزبه أم لا، ومع من التقى مؤخراً، وهل يستوعبه الحزب الفلاني في قائمته؟ وكأن وظيفة السياسي ليست تمثيل جمهور بعينه ولا برنامج سياسي ينتخبه هذا الجمهور ويتوقع بموجبه مواقف هذا السياسي، بل وظيفته هي تحقيق هدفه الشخصي. وهدفه هو الوصول إلى منصب برلماني أو حكومي بغض النظر بأي برنامج، وعلى قائمة أي حزب، ما دام هذا الحزب يضمن له تحقيق مبتغاه على قائمته.

تتحول هذه التحركات الى «خبز الصحافة اليومي» في تفاصيل درامية مملة. والدراما المملة من الفنون النادرة التي يحملها إلينا حلول موسم الانتخابات. ينام الناس ليلاً على «خارطة حزبية» ويستيقظون على أخرى بسياسي يطل عليهم في برنامج تلفزيوني صباحي تغطي المساحيق قلة نومه ونوم مذيعي الصباح ليصرح بأنه قرر الانتقال من هذا الحزب إلى ذاك. ويتظاهر المشاهدون بأنهم يعرفون في أي حزب كان الرجل أصلاً. ويحاول المذيعون إحراجه أو إحراجها، في حالة داليا ايتسك الفذة مثلاً، لكي يتبين أن الهدف من الانتقال ليس مبدئياً كما يتم الادعاء ولا للمشاركة في صنع السلام، ولا لأن حزب العمل ذهب يساراً أكثر مما ينبغي، ولا لأن الليكود ذهب يميناً أكثر مما ينبغي، بل لأنه يريد ضمان عودته/ها شخصياً إلى البرلمان، لأن البرلمان لا ينفع بدونه/ها. (او هو لا ينفع بدون البرلمان، اما البرلمان فلا ينفع بوجوده ووجود أمثاله إلى آخر هذه التركيبات). وأخيراً ينفضح السياسي في هذه الجلسة الصباحية، ولكن أحداً لا يتأثر. والفضيحة أكثر فتوراً من فنجان القهوة الذي برد في هذه الأثناء. فالسياسي يعرف والصحافيون (الأقل مبدئية من السياسيين بسعيهم لاختلاق أخبار من هذا النوع حيث لا توجد) يعرفون أن الخبر ليس خبراً وان طموح السياسي للعودة إلى البرلمان بغض النظر عن الوسيلة ليس خبراً. وان كل هذه الاستثناءات أصبحت في عرف السياسة الإسرائيلية الجديدة عرفاً وعادة وقاعدة.

بعد انتخابات عام 1977 بقليل أثار موشي ديان، بانتقاله من العمل إلى ليكود ليتبوأ منصب وزير خارجية مناحيم بيغن، عاصفة كبرى وحتى تظاهرات لم تهدأ إلا بعد شهور. لكن يبدو أن موشيه ديان كان طليعياً على أكثر من صعيد. واليوم تشكل ظاهرة الانتقال من حزب لآخر من دون إعادة الكرسي البرلماني الى احزب الأصلي عرفاً وعادة جديدين لا يعبران برأيي عن أخلاق جديدة بل عن انحلال سياسي وأخلاقي أيضاً.

تقوم الديموقراطية البرلمانية، من بين مكونات عديدة أخرى، على برامج وأفكار مختلفة متعددة متنافسة، بل ومتصارعة أحياناً، تعبر عنها أحزاب تتنافس في الانتخابات وغيرها من أجل الوصول إلى غالبية المقاعد البرلمانية من أجل تشكيل الحكومة والمساهمة في عملية صنع القرار. السياسيون في مثل هذه الحالة هو ممثلو الأحزاب التي انتخبتهم لإشغال منصب ممثل للحزب في البرلمان. وتتعامل البرلمانات، بتفاوت في ما بينها بالطبع، مع أعضائها كممثلين لأحزاب تتحول إلى كتل برلمانية في ذلك المبنى. وليس النائب مجرد عضو برلمان يتصرف على هواه بل هو عضو كتلة، وله مرجعية، وتحدد أوقات مساهماته وكلامه وحصته من الاقتراحات وحتى مكان جلوسه بموجب عضويته في الكتلة. وكذلك تحدد البرلمانات من قدرة نائب على الانشقاق عن كتلته البرلمانية وإقامة كتلة جديدة بعد انتخابه وتضع لذلك شروطاً.

ولكنها تفترض حرية إرادة بشأن عضويته في الحزب، فهو قد يترك حزبا من الأحزاب بتغير في موقفه. ولكن ليس هذا ما يحصل، إذ لا يتم ترك حزب لتغير في موقف، وهذا أمر شرعي. إذا تغير موقف عضو في حزب بشكل جذري فمن حقه بل من واجبه أن يترك هذا الحزب. فلا معنى للحزب من دون قناعة بمواقفه وبرامجه. ولكن المقعد البرلماني ليس ملك الشخص بل هو ملك الحزب الذي أوكل إليه هذه المهمة. يصح هذا حتى في الانتخابات المناطقية التي يلعب فيها الشخص واسمه دوراً كبيراً، ويصح ذلك بدرجة أكبر في حالة الانتخابات القطرية النسبية حيث التنافس هو بين قوائم تعبر عنها حروف الأبجدية وليس بين أسماء مرشحين.

إذا أضفنا إلى هذا كله استيراد نجوم وشخصيات إلى الأحزاب من خارجها، أي من الجيش ومن تفهاء أساتذة الجامعات كثيري التصريحات وقليلي الإنتاج الأكاديمي، ومن الصحافة ومجال الأعمال، فإن هذا الأمر يفاقم من أزمة الأحزاب. فاستيراد نجوم بنزواتهم وتفاهتهم يعني ضمناً أن الأحزاب لا تنبت شخصيات، وأنها تقتصر على نشطاء ومقاولي أصوات لا مستقبل لهم في قيادة الدولة. وهذا عكس ما كان سائداً في إسرائيل، اذ كان كبار المثقفين والكتاب والسياسيين يلتزمون حزبياً، أو بمشروع حزبي على الأقل. وكانوا يتقدمون الى تمثيل الحزب برلمانيا من خلال مؤسسات الحزب. ولم يتم استيرادهم في الماضي في نوع من المصلحة المشتركة لإغناء القائمة الانتخابية ولإشباع حب الظهور لديهم، فيتحولون من ادعاء كاذب بأنهم غير حزبيين، وفوق الأحزاب، إلى حزبيين بأسوأ معاني الكلمة، أي يستخدمون حزباً لا فضل لهم فيه لإشباع نزوات شخصية أهمها حب الظهور.

وما يجري في إسرائيل هو انحلال للحياة الحزبية لا يبرره ويخفف وطأته على «الديموقراطية اليهودية» إلا الشعور بأن الانتقالات والتنقلات تتم في إطار نفس القبيلة وفي إطار نفس المسلمات الصهيونية. فإما أن هذه ليست دولة ديموقراطية برلمانية حزبية بل كيان آخر، وإما أن هنالك أيديولوجية سائدة تسمح بالحركة في إطارها، وكصمغ لاصق تمنع الانهيار. وهي حالة نادرة حالياً بين الدول الديموقراطية. وفي الحالتين يسهل ما يجري على من يريدون ان يطرحوا في المستقبل مسألة النظام الرئاسي الذي لا تلعب فيه الحياة الحزبية دوراً رئيسياً، وأن يطرحوا الانتخابات المناطقية للبرلمان التي يلعب فيها شخص المرشح للبرلمان دوراً اكبر. وهذه كلها في الحالة الاسرائيلية خيارات داخل القبيلة، أما العرب فهم مقصون تماماً من هذه اللعبة. والأحزاب هي تنظيماتهم الوطنية القطرية التي لا بديل عنها وتجمعهم كأقلية قومية.

الانتخابات والتهديد الإيراني

من مظاهر أزمة الحياة الحزبية وسيطرة التنافس الإعلامي في الانتخابات على البرامج الحزبية والسلوك السياسي، أن حزب العمل يجمع بعد عملية نتانيا مجموعة جنرالات ورؤساء أجهزة أمنية سابقين في تمثيلية بلهاء عن اجتماع سخيف أمام عدسة التلفزيون كمرشحين في قائمته لكي يبدو أمنياً، ولتبدو الدولة إذا ما فاز، ضد شارون وموفاز، في «أيدٍ أمينة» وأمنية. وهو بحاجة أن يبدو كذلك ليس لأنه غير امني، لا سمح الله ولا قدر، بل لأن صورته في أوساط جمهور الناخبين «معتدلة». ولذلك أيضا يصرح عمير بيرتس أن حزب العمل الأكثر سلامية وحمائمية هو الأكثر عسكرية والأقدر على استخدام العنف ضد الإرهاب لان العالم سيتفهمه أكثر في تلك الحالة. كل شيء يتحول الى أداة في الانتخابات التي تجري دون برامج حزبية حقيقية. فنزعة حزب العمل السلامية تصبح أداة حرب، إنها تستخدم في الإعلام لشرح القدرة على القسوة والشراسة في مواجهة الفلسطينيين بعد عملية نتانيا فمن يقرر هو خبراء في الإعلام والإحصاء، إنهم يقررون ما هو شعبية وما هو أقل شعبية.

وعمير بيرتس هو نفسه الذي تبنى عليه الآمال في العالم العربي الذي بات ينقسم بين «واقعيين» يعقدوها على شارون، وأقل «واقعية» يعقدوها على شاربي عمير بيرتس.

يقول رؤوبين بدتسور في «هآرتس» (5 كانون الاول / ديسمبر الجاري): «ليس هناك وضع أشد خطورة لمواطني إسرائيل، على ما يبدو، من الجمع بين الانتخابات المقتربة والمداولات حول الميزانية الأمنية. فجأة يتبين أن إسرائيل تواجه تهديداً وجودياً فظيعاً ووشيكاً، الأمر الذي يستوجب القيام بخطوتين اثنتين لمواجهته: زيادة الميزانية الأمنية وانتخاب أرييل شارون.» فالتهديد الأمني الإيراني الذي أصبح وشيكاً بقدرة قادر يحتاج إلى شارون.

رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية، أهارون زئيفي (فركش)، «يفركش» الرأي العام إذ يدعي بأنه قد يفوت الأوان إذا لم يتم إيقاف البرنامج النووي الإيراني حتى آذار (مارس) 2006. تصريح خطير! ويهول من أهمية تقرير حول شراء طهران لمنظومة دفاعية مضادة للصواريخ وتحسين دقة الصواريخ السورية، وتقدم الإيرانيين «المذهل» في تطوير صاروخ شهاب الإيراني.

لا تحمل حملة التخويف وإثارة الذعر هذه من جديد سوى الانتخابات ذاتها ومناقشة الميزانية الأمنية في الحكومة. نتنياهو يطالب بضرب إيران وهو يعلم أن هذا غير ممكن إسرائيليا، وشارون وشمعون بيريز يندفعان للمزاودة في مؤتمرهما الصحفي المشترك، ولا احد منهم جميعا يفوق افرايم سنية، رجل عمير بيرتس الأمني حالياً، في تحريضه المنهجي والمثابر على إيران.

ايران تطور سلاحاً نووياً منذ مدة طويلة. وشهاب 3 أصبح جاهزا للاستخدام منذ التجربة الناجحة يوم 11 آب أغسطس 2004، وشراء المنظومة الدفاعية الروسية لا يغير في موازين القوي في مواجهة إسرائيل. والاهم من هذا كله أن شارون يعرف أن إسرائيل غير قادرة ولا حتى مع سلاح طيرانها المتقدم أن تقصف على بعد 1700 كم وان الدنيا تغيرت وان إيران استفادت من تجربة العراق. ونشر هذا الوهم هو أمر خطير بحد ذاته.

منذ بداية التسعينيات تكرر شعبة الاستخبارات العسكرية ادعاءها أن ايران ستمتلك سلاحا نوويا خلال خمس سنوات. ولم تنته السنوات الخمس منذ ذلك الوقت. وقبل عامين قرر وزير الدفاع شاؤول موفاز بأن إيران ستجتاز في 2004 نقطة اللاعودة في مشروعها النووي. انتبهوا! فالآن يجري الحديث عن آذار 2006. أي أن التسلح النووي الإيراني وشيك دائماً. المعلومة المعروفة والمفضوحة منذ عام 1973 أن شعبة المخابرات العسكرية في الجيش الإسرائيلي تلائم تقاريرها مع ما ترغب الحكومة في سماعه.

وهي في الواقع لا تملك معلومات أكيدة حول تقدم البرنامج النووي الإيراني، وحالها في ذلك كحال أجهزة الأمن والمخابرات الغربية جميعها. وقد تملك إيران سلاحاً نووياً وقد تضطر إسرائيل إلى التعود على هذه الحقيقة.

الانتخابات الوشيكة ومناقشة الميزانية هي ما يزيد من حدة «التهديد الإيراني». هنا تصبح تعبئة الرأي العام أمنياً، ثم العبودية للمزاج الذي تم خلقه لعبة خطيرة جداً.