ميشيل كيلو/ الخليج

ظهرت في الأسابيع القليلة الماضية عادات وأعراف وفد بعضها الأول إلينا من حركة مارس/ آذار اللبنانية، وبعضها الثاني من الانتخابات الأمريكية، وبعضها الثالث من ظاهرة شعبولا، المغني الشعبي المصري، عبرت عن نفسها من خلال إطلاق أناشيد حماسية في ساحات عامة وميادين رئيسية، وتجميع شبان وشابات في خيم موزعة على مواقع استراتيجية من مدينة دمشق، وتأليف أغنيات جديدة تقدح الخصم ميليس - وتذمه وتمدح الذات وتثني عليها، وتأسيس محطات تلفاز بدعم رجال أعمال وإعلاميين مقربين من النظام تتابع المستجدات وتواكبها وتعلق عليها بروحية تحريضية القصد، وأخيرا، رفع أعلام على شرفات وواجهات منازل تقع على شوارع رئيسية، ونشر شعارات عن الاستعداد للتضحية والصمود والموت في المعركة دفاعا عن ما يسمونه “سوريا الأسد”. هذه الأشكال من التهيئة والإعداد “النضالي” عرفتها سوريا قبل كل هزيمة نزلت بها، وخاصة قبل هزيمة حزيران عام ،1967 التي سبقتها تصريحات تتحدث عن جيش شعبي يضم مئات آلاف المتطوعين الجاهزين للموت في سبيل الحزب والثورة، وجيش عمال وفلاحين أين منه جيش فيتنام الجبار، أعد ودرّب لنشر الحرب في كل مكان من الوطن يدنسه بوط عدو، وجيش طلاب ومعلمين وحلاقين وبائعي خضار وعاطلين عن العمل وحرفيين... الخ لن يهنأ له بال أو يقر له قرار حتى يقبر الغزاة بالجملة والمفرق خارج وداخل تراب سوريا الغالي، وجيش من الفنانين نزل إلى الميدان لا يلوي على شيء وقد أطلق العنان لعقيرته المهددة المتوعدة، مخبرا العدو الأمريكي/ الصهيوني بما يمكن أن يكون قد نسيه أو تناساه، وهو أنه “بفيتنام راحت نص أمريكا ونحنا رح نكفي على الباقي”!.

آنذاك، قبل نيف وثلاثين عاما، تبددت الجيوش الشعبية في أعقاب تبدد الجيش النظامي بقليل : بعيد لحظات من هجوم العدو. وتبين أن الغناء وحده لا يكفي لحماية الأوطان، وأن الخطب الرنانة تعبر عن الضعف ولا تعبر عن القوة، وأن للحرب قواعد ليس بينها التصريحات المتوعدة عن المواجهة والمعركة، وأسلحة ليس الميكرفون أشدها فتكا، وأن مطربي وخطباء الثورة الكبار كانوا يجهلون أبسط قواعد الحرب والدبلوماسية، لذلك هزموا دون أن يدخلوا حربا أو يخوضوا معركة، رغم كثرة الجيوش، التي توهموا وجودها.

واليوم، يأبى التاريخ إلا أن يكرر نفسه، رغم فارق الزمن. ويأبى النظام إلا أن يكرر أخطاءه، رغم مفارقات الواقع وفروق الأوضاع. ومن يراقب دمشق ويسير في شوارعها ويجتاز ساحاتها، سيلاحظ أن ما يجري من تعبئة يؤكد بقاء حالنا السياسي الرسمي على ما كان عليه قبل أربعين عاما، أقله من حيث الشكل، الذي لم يتغير أي شيء فيه، وأن الأمر نفسه ينطبق على أداء مطربي ومغني وخطباء وإعلاميي المعركة، الرسميين والشعبيين، التي أطلق عليها اسم المواجهة، مع فارق ظاهر هو عدم الاستعانة بأمثلة من الثورة العالمية ضد الإمبريالية والرأسمالية لأغراض التعبئة والدعاية ورفع المعنويات، لان هذه الثورة لم تعد موجودة لأسباب تشبه الأسباب التي أنتجت هزائمنا المتكررة، واستعاضة عن غياب الثورة بحضور شعبولات سوريا، الذين نتفوا ريش ميليس وأجداده على دق الطبل، ومرغوا أنفه بالرغام، وأوصلوا رسالة لا لبس فيها إلى “شارون الحيوان”، تخبره أنهم سيحررون الجولان على حد قول الهتافات التي أطلقت في مظاهرات اللاذقية ودمشق!.

هل يكرر التاريخ نفسه ليكون في المرة الأولى مأساة وفي الثانية ملهاة، كما قال أحد كبار فلاسفة العصر الحديث ؟. أطرح هذا السؤال، لاعتقادي أن نمط التعبئة السوري الراهن لن يفيد البلد أو النظام، في حال تحولت المواجهة، وهي إلى الآن كلام في كلام، إلى حرب أو قتال ضد سوريا أو إلى عدوان عليها، وأن هؤلاء الذين يجتمعون اليوم في الخيام سيذهبون بسلام إلى بيوتهم، لان أحدا في السلطة لن يكون لديه الوقت للاهتمام بهم، لأنه سيكون على الأرجح منهمكا في تدبير نفسه، وأن طاقاتهم لم تحشد لمجرد أنهم جلسوا في مكان محدد طيلة أيام أو أسابيع، وأنهم ليسوا في حسابات القوى غير أصفار، ما داموا يفعلون ما يؤمرون به لأنهم غير مبادرين وغير أحرار، ولأن إشراكهم في الشأن العام وقتي ومناسباتي، لا يكفي لجعلهم يشعرون أن البلد صار أمانة في أعناقهم، وأن دورهم فيه يتجاوز إطاعة تعليمات شعبولات الإذاعة والتلفاز والحزب، وأنهم يدافعون عن وطن لهم فيه حصة هو في النهاية وطنهم.

إلى أن يحدث هذا، لن ترد “الهتافات والهوبرات”عدوا عن بلد أنهكته السرقات وقتل روحه الفساد، ولن تحميه أناشيد الردح، مهما كانت كلماتها مسفة وسوقية، ولن يضحي في سبيله من يعتبره بقرة حلوبا، للنهب اليوم وللذبح غدا، ولن يتسابق لصوصه على افتدائه بأرواحهم ومهجهم، بل سيتسابقون إلى الفرار من المواجهة متى جد الجد في يوم أرجو ألا يكون قريبا، كي لا تضيع سوريا بين أرجل الأعداء الهاجمين والمهوبرين واللصوص الهاربين.

ليست سوريا مهيأة اليوم لمواجهة أو لمعركة من طراز مصيري كالذي يجدر بها الاستعداد له. كي تصير جاهزة لهما، عليها فعل الكثير في أجواء تخلو من الهوبرة والتكاذب واستعراضات الوطنية اللفظية والمزايدة، التي حطمت قدرتها عبر سلسلة من الهزائم وحالت بينها وبين إنجاز أي مشروع نهضوي بالأمس، وستجهز اليوم على ما بقي منها، وتجعل عودة الروح إليها أصعب بكثير من طلوع ما بقي فيها من روح.