نصر شمالي

المتابع لأخبار المؤتمرات العربية والإسلامية لا يستطيع إلا أن يتأمل بحسرة وألم ما هدرناه من أزمنة وجهود وتكاليف، نتيجة تصورنا أننا في وضعية دفاعية، فما الذي ندافع عنه؟ التشرذم والتجزئة، والتيه والبؤس، وانعدام الوزن والأفق؟

لقد ظللنا عقوداً وعقوداً من السنين نتصدى للأعداء، نتوهمهم خارجنا بينما هم داخلنا نحاول صدهم من جهة واعتماد طرائقهم ومذاهبهم من جهة أخرى، ونتوهم أنهم يريدوننا مثلهم بينما هم يريدون أن نبقى في ما نحن عليه، وما نحن عليه هو أننا تحت سيطرتهم شبه التامة، مباشرة أو مداورة، لكنهم يوحون لنا أننا مستقلون، ومسؤولون وحدنا عن تخلفنا وبؤسنا!

وهكذا فقد ظللنا نعتقد أننا في وضعية دفاعية، ونتصرف على هذا الأساس، بينما نحن لسنا في وضعية دفاعية بل في حالة تخبط عشوائية، حيث هناك ما يتوجب أن نسترده لأنه مسلوب، واسترداد المسلوب، الذي لا حياة لأمتنا من دونه، يحتاج الى وضعية هجومية لا دفاعية، فأمتنا ممزقة، وأراضينا مجزئة ومسلوبة، وثرواتنا منهوبة ومهدورة، وثقافتنا مشوهة ومهانة، وكذلك كرامتنا، فما الوضعية الصحيحة التي يتوجب اتخاذها إزاء ذلك كله إن لم تكن وضعية الهجوم المفهوم لا الدفاع الموهوم؟

في لقاء دولي للقادة، عقد مؤخراً في دبي، أطلق الرئيس الماليزي السابق مهاتير محمد صرخة يخشى أنها ضاعت في واد! قال: "إن منبع مشكلة الإرهاب هو في إعطاء جزء من أرض شعب لشعب آخر وإقامة دولة على هذه الأرض، وأن المشكلة مشكلة أرض لا مشكلة دينية، حيث المسيحيين العرب يقاتلون الى جانب المسلمين من أجل فلسطين وحيث الفلسطينيين مقموعون وليست لديهم أسلحة، ولذلك يفجرون أجسادهم، فإذا قال البعض هذا "إرهاب" أقول إنه عندما تقصف دول كبرى مدنيين وتقتلهم بطائراتها المتطورة، فهي أيضاً دول إرهابية"!

وبعد ذلك انتقل مهاتير محمد الى جوهر الموضوع، فانتقد الزعماء العرب قائلاً إن ما ينقصهم هو القرار السياسي، ذلك لأن لديهم المال والقدرات، وأن على العرب والمسلمين استعمال النفط سلاحاً، منبهاً الى أن الأزمة الحالية رفعت سعر برميل النفط (الى حوالي 55 دولاراً) بينما كان القادة العرب والمسلمون يبيعونه سابقاً بدولارين، ولا يصلهم من الدولارين إلا عشرين سنتاً فقط، أي إن هذه الثروة الاستراتيجية الثمينة منهوبة ومهدورة!

لقد كان ما قاله الرئيس الماليزي، الرصين المعتدل والناجح، هو في جوهره دعوة للخروج من وضعية الدفاع الموهوم الى وضعية الهجوم المفهوم. أما عن الديمقراطية (وماليزيا بلد ديمقراطي كما نعلم) فقد قال مهاتير محمد: "نحن لا نؤمن بالديمقراطية الليبرالية، فالديمقراطية في الأساس هي تمكين الشعب من اختيار حكومته، وهذا أمر نؤمن به، لكننا لا نؤمن بأمور كثيرة أنتجتها الديمقراطية الليبرالية، منها بعض ما يسمى "حقوق الإنسان" فحقوق الإنسان تتضمن، مثلاً، السماح للرجل بالزواج من رجل آخر، وهذا ما لسنا مضطرين الى قبوله باسم الديمقراطية أو حقوق الإنسان"!

في بريطانيا، كما أعلن قبل أيام، صار بمقدور مثليي الجنس عقد قرانهم رسمياً بعد أن تبنت الحكومة قانون "الشراكة المدنية"! ويأتي هذا القانون تتويجاً لمسيرة ليبرالية ديمقراطية طويلة انطلقت قبل مئات السنين، مغلّبة الاستثناء على القاعدة سواء في السياسة الداخلية أم الخارجية، ومغلّبة الشذوذ على الاستقامة سواء في العلاقات الفردية أم الاجتماعية أم الأممية، فعلى الصعيد الدولي، ومنذ القرن السابع عشر، تعامل الإنكليز البريطانيون والأميركان مع أبناء الأمم الأخرى باعتبارهم كائنات أدنى لا ضير في إبادتها إذا تطلبت مصلحة الأمم المتمدنة ذلك، وبينما أبادوا الملايين من سكان أميركا الشمالية، تعاملوا مع الهندوس في الهند ومع الأمم المستعمرة الأخرى التي نهضت إمبراطوريتهم على أنقاضها، بناء على المبادئ التالية:

أولاً يجب أن تسبق السيطرة العسكرية على المستعمرة سيطرة تجارية فالتجار وحدهم يستطيعون، برواج أسواقهم، إثبات وجود نفع عظيم في الاستيلاء على بلد ما، فإذا فعلوا ذلك يفقد البلد المستهدف توازنه ويصبح جاهزاً للهزيمة العسكرية، أو للسيطرة عليه بطريقة غير مباشرة، بالحيل أوالدسائس!

ثانياً، يجب أن يتحقق قهر البلد الذي يراد الاستيلاء عليه بمال هذا البلد وبجنوده، فعلى الأوروبي المستعمر الاقتصار على إدارة شؤون البلد المستولى عليه، وقد طبق هذا المبدأ الأساسي في السيطرة على الهند، واستطاع الإنكليز، بتدخلهم في منازعات أمراء الهند، السيطرة على جميع الهند من غبر أن يتكبدوا نفقة أو يخسروا رجلاً، إلا ما لا يستحق الذكر!

ثالثاً، يجب استغلال المستعمرة استغلالاً تاماً لصالح الأمة المسيطرة وحدها مادامت الأمة المستعمرة عاجزة عن رفع نير الاستعمار الأجنبي عنها!

رابعاً، يجب أن لا تمس نظم المستعمرة وعاداتها ومعتقداتها إذا ما أريد استغلالها اقتصادياً من غير أن يدفع سكانها راية العصيان (أي في حال عدم الحاجة لإبادة سكانها واستيطانها) وذلك بأن تترك لهم إدارتهم ومحاكمهم، مع إشراف قلة من الموظفين الأوروبيين مهمتهم تحقيق أمرين: حفظ الأمن، وجباية أقصى ما يمكن من الضرائب!
خامساً، يجب أن لا يتزاوج ويتوالد الغالبون والمغلوبون أبداً، لأن توالد الشعوب العليا والشعوب الدنيا في المستعمرات يؤدي الى انحطاط الشعب المهيمن، أخلاقياً وعقلياً، ثم يؤدي الى خروج مستعمرته من يده في أقرب وقت!

وقد قرر الإنكليز أن الهندوس أمة دونية عاجزة، وأن الكائن الهندوسي يعرف كيف يطيع، ولا يبدو حسناً إلا في حالة خضوعه لسيد، أما إذا تولى القيادة فإنه يغدو ظالماً مستبداً جباراً! مع أنهم وجدوا في الهند نظاماً تشكل القرية وحدته الأساسية، ووجدوا القرية والأراضي المحيطة بها ملكاً مشتركاً لسكانها، فهي أرض مشاع، حيث المجتمع الهندي كان يردّ كل ملك شخصي الى المشاع، وإذا حدث أن شخصاً هندياً أثرى بالاعتماد على مواهبه فإن جماعته ترى من الطبيعي أن يقاسمها ما اكتسبه، ففي القرية الهندية كان الهندوسي يجد الحكومة الأبوية الحامية له، والقاضي الذي يرد عليه حقه، والكاهن الذي يوجه روحه، والطبيب الذي يداوي جسمه، والشاعر الذي يسحر فؤاده، والراقصة التي تفتن عينيه، وأبناء عشيرته الذين يلتفون حوله كأسرة هو ابنها (كما يصف غوستاف لوبون) لكن الإنكليز وجدوا في هذه الصورة الإنسانية العذبة مظهراً للبربرية والتخلف والقصور، ورأوا أن الطبيعي هو الانتقال من الشيوع الى التملك الشخصي، بعكس الهندوس الذين يسعون الى رد كل ملك شخصي الى المشاع فاعتبروهم بذلك يسيرون خلافاً لما تسير عليه الأمم المتحضرة الأوروبية، أي همجاً غير قابلين للتحضر، مع أن الطبيعي هو ما يسير عليه الهندوس وغير الطبيعي هو ما سار عليه الأوروبيون وفرضوه على جميع أمم الأرض ليجعلوا من القاعدة استثناء والعكس بالعكس، وقد بلغ هذا الاستثناء الذي فرض كقاعدة (التملك الشخصي الليبرالي والحرية الشخصية الليبرالية) هذا الحد الذي بلغه اليوم، بإصدار قانون يبيح زواج المثليين، الرجل من الرجل والمرأة من المرأة، مع أن مثل هذه العلاقات الشاذة على أزليتها هي الاستثناء، حيث وظيفة الزواج، بكل بساطة، هي التوالد وحفظ النوع بالدرجة الأولى!

غير أن الأوروبيين، صاغوا تاريخ العالم المتحضر كما يناسبهم، فقصروه عليهم وعلى اليهود واليونان، وخرجوا على الأمم بقصة الاستبداد الشرقي والاقتصاد الآسيوي، وأدخلوها بنجاح في رؤوس الكثير من النخب الآسيوية الشرقية، التي استجابت وصارت تكن لأهلها أشد أنواع الاحتقار وتخاطبهم وبأقسى عبارات التوبيخ، وانهمكت هذه النخب بوضع شعوبها على طريق الليبرالية، حيث التضامن الاجتماعي الطوعي المشاعي دليل تخلف وهمجية، بينما الليبرالية التي تؤدي في النهاية الى شرعية زواج المثليين هي التقدم والمدنية والحضارة!

نعود الى صلب الموضوع فنقول إننا، منذ عشرات السنين، في حالة تخبط وليس في وضعية دفاع، وأن المطلوب على جميع الصعد هو اعتماد وضعية الهجوم المفهوم، لا الدفاع الموهوم، من أجل استرداد جميع مكوناتنا الإنسانية المسلوبة، ومن أجل إعادة الاعتبار للقاعدة، وتسمية الشذوذ باسمه الصريح.