النهار ، سركيس نعوم

تناول البعض ومنهم زملاء نجلّ ونحترم موضوع القوات الدولية باعتبارها مشروع حل لما يجري في لبنان من ازمات متنوعة بعضها يتعلق بالامن الفالت في الداخل وبعضها الآخر يتعلق بالحدود الفالتة من جهتي الشرق والشمال وبعضها الآخر يتعلق بالالتباس القائم على الحدود الجنوبية والناجم عن زوال معظم الاحتلال الاسرائيلي مع استمرار الخروق الاسرائيلية واستمرار المقاومة وامتناع السلطة عن ممارسة دورها في تلك المنطقة، الامر الذي اوجد ازدواجية بينها وبين المقاومة والجهات الاقليمية المتحالفة معها واثار مشكلات داخلية او بالاحرى هواجس عمقت خلافات اللبنانيين وانقساماتهم.

هل القوات الدولية مشروع حل لمشكلات لبنان المعقدة والكثيرة؟

قبل الجواب عن هذا السؤال لا بد من الاشارة، رغم اننا لسنا خبراء في القانون الدولي، الى ان القوات الدولية ليست نموذجاً واحداً بل نماذج متنوعة تحدد شكل كل منها المهمات التي يطلب الجسم الدولي، وهو هنا مجلس الامن، منها تنفيذها. منها النموذج الذي شهدناه في لبنان بل عايشناه منذ اول اجتياح اسرائيلي واسع للجنوب عام 1978 ولا نزال نعايشه حتى اليوم. وهو قوات حفظ السلام الدولية، ومهمتها النظرية هي حفظ السلام على الحدود اللبنانية - الاسرائيلية وتسليحها خفيف وهي غير مخولة استعماله ضد حتى الذين يعطلون مهمتها او يحاولون تعطيلها الا دفاعا عن النفس. وهذا النوع من القوات الدولية ينجح في تنفيذ مهماته اذا كان الطرفان المتصارعان او الاطراف قابلين بها ومستعدين للتجاوب معها، ويفشل اذا كان الطرفان او الاطراف المتصارعون مصرين على الاستمرار في القتال وإن متقطعاً، واذا كان كل منهما يحاول ان يوظف القوة المذكورة في مشروعاته ومخططاته.

هذا ما حصل فعلا في لبنان. اذ لم يحل تسلم القوة الدولية عملها في جنوب لبنان عام 1978 دون استمرار القتال بين الفلسطينيين واسرائيل، ولم يحل دون ان تصب اسرائيل انتقامها على لبنان الداخل واجتياحه عام 1982، ولم يحل بعد ذلك دون عمل المقاومة لتحرير الارض المحتلة ودون ردود اسرائيل عليها. وهذا الامر لا يزال ساريا حتى الآن رغم تقلص حدته بسبب تحرير معظمها في ربيع عام 2000. وحوّل ذلك كله قوة حفظ السلام قوة مراقبة دولية وقوة جمع معلومات وارسالها بتقارير الى مجلس الامن. طبعا لا يقلل ذلك من الدور الايجابي الذي قامت به في الجنوب مجرد وجودها على الحدود ولكن هذه الايجابية كانت تتعطل بقرارات استمرار المواجهة من على جانبي الحدود سواء الصغيرة منها او الكبيرة كالاجتياح مثلا او الضرب في العمق. ومنها ايضا نموذج قوات فرض السلام الدولية، وهذا السلام قد يكون في الداخل اثناء حرب اهلية مثلاً كما قد يكون على الحدود اذا كانت هناك حروب او معارك بين دولتين او اكثر. ونجاح هذه القوات في تنفيذ مهمتها يقتضي اولا جيشا فعليا بعدد قادر على فرض السلام سواء بهيبته او بعديده وسلاحه اذا اضطر الى خوض حرب ضد رافضي السلام والمصرّين على مواصلة الحرب او الحروب. ويقتضي ثانيا قراراً دولياً كبيراً. ويقتضي ثالثاً توفير النفقات اللازمة لذلك. ويقتضي رابعا امتلاك المسؤولين عن القوة او بالأحرى الذين انشأوها خطة سياسية او على الاقل نظرة ثاقبة لطريقة تحقيق السلام السياسي سواء بين الاطراف المتقاتلين او الدول المتحاربة. ومنها ثالثاً ما يدعى بوليساً دولياً يشرف اما على تطبيق الاطراف المتحاربين ولا سيما الدول، اتفاقات انهاء الحروب او الهدنات الطويلة الأمد.

هذه النماذج الثلاثة هل تنطبق على لبنان اليوم؟

النموذج الاول الموجود في لبنان منذ نحو سبعة وعشرين عاماً لم يثبت نجاحه رغم ايجابياته المحدودة التي اشرنا اليها. والنموذج الثاني اي قوة فرض السلام لا تبدو الظروف مهيأة له، فعلى الصعيد الداخلي ليست هناك حرب اهلية في لبنان على الاقل حتى الآن وتاليا فان قوة كهذه لا لزوم لها، وعلى الصعيد اللبناني الاقليمي لا تفيد قوة فرض سلام على الحدود مع سوريا لأن تردي العلاقة لم يبلغ حد الحرب والاجتياح ولأن قيام هذه القوة بضبط الحدود قد يثير مشكلات كثيرة لها مع بعض الداخل اللبناني، الأمر الذي يعطل مهمتها. اما البوليس الدولي فيمكن ان يكون مفيدا على الحدود مع اسرائيل وسوريا، لكن ذلك يقتضي تقيداً بالهدنة بين لبنان واسرائيل باعتبار ان السلام لا يزال بعيداً والبوليس الدولي في هذه الحال يصبح هيئة مراقبة دولية، ويقتضي "تطبيعاً" كاملاً للعلاقة اللبنانية – السورية وانهاء لمشكلات الداخل التي لا تزال سوريا جزءا منها.

في اختصار ان قوات كالمذكورة اعلاه لا تنجح اذا لم تقف وراءها قرارات نهائية للسلام من المعنيين بها دولا كانت او شعوبا متناحرة واذا لم تنبثق من ارادات دولية صلبة بعد اجماعها على تحقيق السلام بعد استنفاد محاولات التوصل الى تسوية عبر مساومات معروفة. في اختصار ايضا ان القوات الدولية في لبنان اليوم قد تسهل تكريس انقسامات شعوبه هذا اذا لم تتسبب بشبه حروب اهلية تعيد رسم الحدود الجغرافية بين هذه الشعوب باعتبار ان الحدود السياسية والنفسية مرسومة من زمان.

وفي اختصار ثالثا ان نشر القوات الدولية على حدود لبنان وخصوصا الشرقية الشمالية منها قد يشعل الشق الجنوبي منها كما قد يكون العامل الذي يؤدي الى دخول لبنان رسميا وفعليا معركة الارهاب على تنوع عناوينها والحرب عليه من المجتمع الدولي.

وفي اختصار رابعاً واخيراً لا يعالج مشكلة لبنان الا اهله باعتبار ان تشرذمهم هو الذي مكّن الخارج الشقيق الصديق والعدو من تحويلهم ادوات متصارعة باسمه على ساحة هي وطنهم لبنان، واذا لم يفعلوا ذلك فعبثا يفتشون عن مساعدة في الخارج على تنوعه والخشية الكبيرة هي ان يحجموا عن ذلك لأن احداً منهم لا يتعظ من الماضي، ولأنهم كلهم مصرون على تكرار التجارب المؤذية بل المهلكة. وعبثاً يسعون الى وقف سفك الدم الشهيد وربما لاحقا الى عدم شموله المطمئنين الى انهم بمنأى عنه.