السفير ، عمر كوش

جاء حادث اغتيال الصحافي والنائب اللبناني جبران تويني ليعيد توتير الأجواء في لبنان، ودفعها نحو مزيد من الالتهاب، بعد أن ظن كثير منا أنها كادت أن تهدأ بعد سلسلة من الاغتيالات التي استهدفت شخصيات سياسية وإعلامية وأحياء وتجمعات سكنية وتجارية في هذا البلد. فالحادث جاء في لحظة حساسة، محلياً وإقليمياً ودولياً، وتزامن مع استعداد مجلس الأمن الدولي لمناقشة التقرير الثاني للجنة التحقيق الدولية الخاصة بالتحقيق بجريمة اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري. فضلاً عن أن استهداف جبران تويني مقصود في مرحلة زمنية مفتوحة على ملفات عديدة في المنطقة، وربما يهدف إلى جعله حقل اختبار لموازين القوى المحلية والإقليمية، ولمعرفة مدى استعداد الجهات المعنية لتحمل المسؤوليات.
ويشكل هذا الاغتيال جريمة سياسية بامتياز، موجهة ضد الصحافة وحرية التعبير وضد الرأي الآخر المختلف، كما يشكل رسالة إلى كل من يسعى في لبنان وفي غيره إلى التطاول ولو بالكلام على أسس ومرتكزات النظام الأمني، وكأن السياسة في بلداننا العربية باتت بعُرف من خطط وساهم في الجريمة تختصر إلى جملة من الجرائم والمؤامرات، ومحدودة بين طرفي ثنائية الرضوخ / القتل.
وإن كانت عملية الاغتيال قد أعادت إلى الأذهان مسألة تجدد أعمال الاغتيال السياسي في لبنان، فإنها تقطع باستمرار نهج تصفية الخصوم في الفكر والسياسة، مع أن جبران تويني لم يستهدف بسبب أفكاره وآرائه التي يمكن المجادلة والاختلاف بصددها، ولا تحظى بإجماع حولها، ولكنه قتل بسبب مواقفه السياسية التي تعبّر عن توجهات تيار واسع وقوي في الشارع اللبناني. وهنالك خشية من أن تنتج هذه الجريمة مضاعفات سلبية قد تترك آثارها على التركيبة اللبنانية والسلم الأهلي، ذلك أن الانقسام قد طاول الحكومة اللبنانية في أول اختبار لها بعد حصول الجريمة. والخوف من أن تتمكن هذه العملية من زيادة الانقسامات الداخلية السياسية، الأمر الذي يضعف الثقة بالمؤسسات السياسية اللبنانية، ويعني فتح الباب واسعاً أمام دعوات التصعيد والعنف. وخصوصاً أن السياسة في لبنان متغيرة وغير مقيدة، وتتحول حسب معايير المصلحة وتوجهات وحسابات القوى الفاعلة وقوة دورها الإقليمي والدولي. بمعنى أنها لا تتأسس على الدوام، بل يعاد إنتاجها وفق تصورات خاضعة لتأثيرات عديدة.
غير أن النظر في مسألة الجريمة السياسية يمتد ليطاول قضية الاغتيال السياسي كنهج وممارسة، تهيئ له وتؤسس له فكرياً مدارس متخلفة ومتعددة الاتجاهات، وينبغي النظر إليها بجدية شديدة، ومقاومة مصادرها الفكرية بكل قوة، كي لا تختصر السياسة في بلادنا العربية إلى درجة تصبح فيها جزءاً من عالم الجريمة المنظمة تحت مختلف الشعارات والمسميات، وفي ظل الهيمنة الشمولية التي تصادر كل شيء، مع أن التاريخ العربي القديم والمعاصر يشهد على أبشع الاغتيالات السياسية.
ويشير استمرار نهج الجريمة السياسية إلى انحطاط السياسة، وسقوط العقل، بوصفه الجزء المسبب لخراب ودمار الأوضاع في بلداننا العربية. وهو نهج لا يضرب شخصاً بعينه فقط، بل بلداناً وشعوباً وطموحات وآمالا وأحلاما في هذا الزمن العربي الذي تتسيده نظم الشمولية والهيمنة، وأنتج صنوفاً من الاستبداد والقمع غير مسبوقة، وتنازعت فيه مختلف النعرات والتحزبات والانتماءات الضيقة والما قبل مدنية. إنه الزمن المشغول بإنتاج الفساد والخراب والهزائم والانكسارات، ويتمسك فيه الحيّ بتلابيب الميت، ويعيث فيه فساداً الجلاوزة وصنّاع الجمود والركود ودعاة تأبيد أنظمة الحاضر الآن. من هنا على الديموقراطيين العرب أن يعملوا على إيقاف هذا النهج القائم على القتل.
وتؤكد جرائم الاغتيال السياسي على أن أعمال العنف السياسي بشكل عام تنتشر في بلداننا ذات النظم المطلقة، نظم الشمولية والهيمنة. حيث تتولى الأجهزة الأمنية فيها، وخصوصاً الاستخباراتية، مهمة ملاحقة الخصوم السياسيين وتصفيتهم أو إسكاتهم، وتعمل على منع كافة أشكال المعارضة والنقد للأوضاع الراهنة بصورة منهجية وعلنية.
وإن كانت الدماء التي سالت في لبنان، بدءاً من دماء رفيق الحريري، قد وحّدت اللبنانيين، فإن التجاذبات السياسية تفرقهم في كل مرة لصالح مختلف العصبويات الفئوية والطائفية والمذهبية، وأملنا في أن ينبه نهر الدم الذي سال الديموقراطيين اللبنانيين إلى خطورة ما يدور في بلدهم، وخاصة أن الاغتيالات تهدف إلى خلط أوراق التحالفات السياسية، ثم العبث بالتوازنات والاستقطابات المحلية، وبالتالي فإن لبنان ما يزال مهدداً بتفخيخ وتفجير العلاقات الأهلية بين أبناء شعبه.