سعاد جروس /الكفاح العربي

كأي مواطن سوري, بات يترتب عليَّ العد للعشرة قبل أن اتخذ قراري بزيارة لبنان في هذه الأجواء المدلهمة, إن لم أقل المسمومة. بعد أن أجريت حساباتي جمعاً وطرحاً وضرباً, اخترت كسر الحاجز وابتلاع الغصة السورية, كيلا نبقى أسرى دعاية إعلامية هدفت الى إحداث شرخ بين شعبينا اللبناني والسوري. قبلت الدعوة إلى مؤتمر القضايا الاجتماعية بعين الإعلام, الذي أقامه المركز الثقافي البريطاني في الشرق الأدنى وشمال أفريقيا من 6 ­ 7 كانون أول الحالي في بيروت. بالنسبة إليَّ, طالما سحرني الطريق إلى بيروت, وأحببته أكثر من بيروت, فالطبيعة على الطريق تروي حكاياتها الطلية, بعيداً عن الادعاء والصنعة الإعلانية المبهرة. من ضهر البيدر الى صوفر يغتسل البصر بشلالات النور, مسكوبة بسخاء على جبال ووديان, تتخايل فيها أصداء أغاني فيروز والرحابنة, لتعمد الروح بنقاء ينفض عنها قذارات السياسة وحذلقاتها. حين وصلنا الى بيروت, كان الحذر والتوجس يسبقنا من رذاذ كلمات حاقدة, قد يصيبنا عمداً أو عن غير قصد, هنا أو هناك, من شعارات أو لافتات قد تؤذي مشاعرنا السورية, لكن الترحاب الذي استقبلنا به فاق توقعاتنا, وبدا لنا مبالغاً فيه, ويمكن القول انه بدد حذرنا, وزرع مكانه شعوراً بالخجل مما خالجنا من مخاوف. معظم اللبنانيين الذين التقيناهم, لم يكونوا من الأصدقاء والمعارف وزملاء العمل, كنا لأول مرة نلتقيهم, سواء في استراحة شتورة, أو موظفي الفندق, أو الزملاء في المركز البريطاني في بيروت؛ ولا نجامل إذا قلنا انهم كانوا على مستوى رفيع في الدماثة واللطف, حتى المناقشات التي شهدها برنامج المؤتمر المكثف ما بين إعلاميين ومختصين من بريطانيا ومصر والأردن وفلسطين ولبنان وسوريا, اتسمت بالهدوء والحوار البناء بكل معنى الكلمة, ولم تعكر صفو الجلسات أي احتقانات سياسية, على الضد مما هو متوقع, أو ما يحدث في لقاءات مماثلة, وكأنما كل شيء تم تنظيمه بدقة بالغة, أو ربما إخفاؤه بحرص شديد, مما جعلني في الأيام الأولى اقتنع تماماً أن ما تنقله وسائل الإعلام, وبالأخص اللبنانية لجهة العلاقة مع سوريا, لا علاقة له أبداً بما يجري على الأرض هنا أمامي, وأن الوسائل التي تعمد الى شحن الشارع اللبناني ضد سوريا, تخطئ أهدافها فتصيب الشارع السوري, وتشحنه بمشاعر سلبية تجاه اللبنانيين, كون, وهنا المفارقة, الجمهور السوري المستهلك الأول للإعلام اللبناني جراء غياب إعلام سوري حر. كما لمست استرخاء الى حد ما في الشارع اللبناني, أو بمعنى أدق لا مبالاة, مرده حالة قرف أو زهد بالسياسة والسياسيين, وقناعة الكثيرين بأن هناك من يرسم أقدار المنطقة في الخارج, وكل ذلك لا يظهر في الإعلام. إذ يجري تصنيع مشهد موتور للتصدير, يُظهر لبنان وكأنه مرجل يغلي بالحقد على كل ما هو سوري وعربي, في حين ينضح الواقع بتيارات متعددة تتلاقى وتتباعد الى حد التناقض, لكنها بالمجمل مطروحة للنقاش والجدل, لا يغلب أحدها الآخر على الأرض, وإن كان أحدها يستحوذ على الشاشات. وما أكد قناعتي هو ما جرى خلال المؤتمر الذي كنت فيه حين نقلت إحدى الصحف عن لساني تحفظاً على أرقام إحصائيات قدمت في دراسة عن واقع البطالة في المنطقة تحت عنوان «تحفظ سوري» ضمن تلميح يوحي بأن الموضوع المطروح للنقاش سياسي, مع أنني لم أتحفظ على شيء ومشاركتي كانت بصفتي مستقلة, فأنا لا أمثل سوى نفسي. إذاً كان المؤتمر في واد والصحيفة التي فبركت الخبر في واد آخر, ويمكن سحب هذا على كثير من القضايا الأخرى التي تعيث فيها الأهواء السياسية خراباً.

ولقد شجعتني الأجواء الإيجابية في الحوار على تمديد إقامتي في بيروت الى ما بعد المؤتمر, وانتقلت إلى فندق آخر وسط البلد, وعاد الحذر ليسبقني الى هناك فقد كنت وحدي, إلا أن شيئاً لم يتغير, فسائق التاكسي استفاض في الحديث عن السوريين وحبه لهم, وموظف الفندق استمطر اللعنات على من يفتعل الفرقة بين الشعبين, وآخر أكد أن لا خواجة غير السوري, وان نزلاءه المعتادين جميعهم من السوريين, ولا شيء بين البلدين!! أما بين المثقفين في المقاهي والبارات, فكان النفس القومي العروبي يتصاعد بالتواكب مع الحديث عن السيادة, والاستقلال وانتهاء عهد الوصاية, ولزوم مراجعة أخطاء الماضي لبناء علاقة صحيحة, ليس مع سوريا وحسب, بل مع العرب عموماً, وثمة خوف وقلق من شبح حرب أهلية تلوح في الأفق, تُنبه إليه لافتة علقت في احد شوارع بيروت, «أن هناك من يلطم ويمزق ثيابه بانتظار إطلاق الرصاص!!» لافتة ترفرف بتحفز الى جانب إعلانات تجارية وسياسية تملأ فضاءات بيروت بصنعة متقنة. كما تملأ جدران المخيمات شعارات مكتوبة بخط اليد بحرفنة بدائية عن المقاومة والصمود والـ...إذ كتب على أحد الجدران «الله , أمل, زاروب الـ أف بي أي» في خليط عجيب يعطي لبيروت هويتها الخاصة بين الترف والبؤس, وبين تعددية التيارات السياسية والثقافية والتوازنات الطوائفية, بين التوق للحرية والمقاومة التي لا تعرف المساومة, بين التوق للانفلات والالتحاق بالآخر... شيفرة عصية على التفكيك والفهم, ساحة كالجنة لمن يقرأ رموزها, وجهنم لمن لا يفقه تناقضاتها المتبدلة. إنها بيروت التي حمَّلتني من الحب ما يكفي لأقول للسوريين ادفنوا هواجسكم, قبل أن تستفحل, فليس ما نراه على الشاشات هو لبنان, ففي بيروت بحر كبير, وثمة جنوب يستلقي في وجدان العرب عنواناً للصمود والتحرير والنصر, ومن زار الجنوب كمن عانق جبال الساحل السوري, فما بالنا بالذي سقاه دماً ودمعاً ليسترده من إسرائيل, حضناً أثيراً ووثيراً, إن جرد من أحِِراجه نهضت خضرته في الشقيف ومرجعيون, لتكتب رسائل التاريخ الآتي, بأنه لا يصح إلا الصحيح.

عدت من الجنوب, ومن القلب نسل خيط حرير كشرائط العيد على طول الطريق الى صيدا ومن ثم بيروت ودمشق, عدت حاملة معي زجاجة من ماء الجنوب ووردة جورية بيضاء, لأشتلها على جبين قاسيون, ولم يكد يطلع الصباح علي َّ في دمشق, حتى حملت الأخبار نبأ تفجير المكلس واغتيال النائب والصحفي جبران تويني. هل خدعتني بيروت؟! ارتدت هستيريا الحقد لتندلع من الشاشات اللبنانية باتجاه سوريا, فانقصف عنق الوردة, ولم تسعفني زجاجة الماء في إطفاء حرائق أتت على حمولتي من مناغاة بيروت وعناق الجنوب.

صوت العقل لا يُسمع, وصوت القلب مكتوم, من سمع غسان تويني في مصابه الجلل يدعو إلى دفن الأحقاد؟! كان صوته, صوت العقل الصابر, ونواح القلب الجريح معاً.

فلنسمع غسان ونعي ما قاله.