نزار سلّوم

ثمة حديث متجدد عن استمرار «الوجود السوري» في لبنان، واعتباره السبب الرئيس الذي يكبح برنامج «توليفة 14 آذار»، أو وفق مصطلح إشكالي «انتفاضة الاستقلال» عن استكمال ما تم البدء به في إطار ذلك البرنامج.

فـ «الاستقلال» المنشود لازال غير مُنجز و«الانتفاضة» وقفت مسيرتها أمام «حاجز» الوجود السوري الذي يستعيد نفسه، على نحو غير مسبوق، منذ أول أيار 2005.

وهو التاريخ الذي كان الحديث يتناول قبله «الوجود العسكري السوري»، أما وبعد انسحاب القوات السورية من لبنان، بدا وكأن المطلوب ليس فقط هذا «الانسحاب»، بل استئصال أي أثر لـ«سورية» في مختلف الحقول. وعلى ذلك تكرر الحديث عن الوجود الاستخباراتي السوري على لسان المسؤولين الأميركيين والفرنسيين، وبالطبع أمسى الحديث عن «الاستخبارات السورية» لازمة لغوية دائمة على ألسنة «زعماء 14 آذار»، وقد كانت حوادث الاغتيالات والتفجيرات التي وقعت، مناسبة لهذا الحديث المتجدد، عن الاستخبارات السورية ودورها، وذلك انسجاماً مع أحد أهم ثوابت الخطاب السياسي «الآذاري» المتمثل بتحميل سورية مسؤولية كل حادث اغتيال، وكل حادث تفجير أينما ومتى وقع؟

ومن الواضح الآن، أنه كلما تعثر أحد الزعماء من «توليفة 14 آذار» في خطواته السياسية لسبب أو لآخر ـ باستثناء حزب التيار الوطني الحر ـ يعود للحديث عن «الوجود السوري» معتبره «علة العلل»؟ مشيعاً مناخاً من الخوف من وجود «متلبس» وجوه لبنانيين، يمكن أن يكونوا من سحنة «عاصم قانصوه» المسؤول البعثي، كما يمكن أن يكونوا من سحنة «سليمان فرنجية» الزعيم الماروني الذي لا علاقة فكرية له بالبعث أو بغيره من الأحزاب. وما بين السحنتين المذكورتين يتدرج التعبير عن «الوجود السوري» ويتعدد ليصعب على العدّ؟!.

فيكثر الحديث ويستطيل ويتشعب عن هذا «الوجود» ليشمل أحزاب سياسية أو قوى أو تيارات أو شخصيات وأحياناً حتى «طائفة ما» «متأثرة» أو «متحالفة» أو «متقاربة» مع «سورية»، وعندما تتعثر تماماً الخطوات السياسية لأصحاب الحديث المذكور، تنقلب هذه الأحزاب والقوى والشخصيات.. إلى «قوى مأمورة» سورية مائة بالمائة؟!

وإذا كان «التلميح» أحياناً أشد فصّاحة من «التصريح»، فمن المؤكد أن لائحة «الوجود السوري» في لبنان ـ بحسب تصريحات وتلميحات هؤلاء ـ يمكن أن تشمل مثلاً: حزب الله، حركة أمل، حزب البعث العربي الاشتراكي، الحزب الديمقراطي العربي، الحزب السوري القومي الاجتماعي، الشغيلة، الأحباش، الناصريين، ومن المستجدين في هذه اللائحة، وحسب دواعي الاستعمال، يمكن إدراج «التيار العوني» كما يمكن إدراج الكتائب ورئيسها كريم بقرادوني، وإذا استطالت «الأزمة السياسية» فاللائحة تستطيل لشمل مثلاً «القوة الثالثة» التي يرأسها الرئيس سليم الحص! فضلاً عن شخصيات كثيرة ومتعددة، تبدأ بـ سليمان فرنجية، وعمر كرامي، لتشمل وجيه البعريني ويمكن أن تضم ميشيل سماحة، ونجاح واكيم، وإيلي الفرزلي، وعبد الرحيم مراد، وسليم الداوود، وأسامة سعد، وشارل أيوب، فضلاً عن [سوريين جداً] كـ وئاب وهّاب والغائب قسراً عن الإعلام ناصر قنديل بفعل تقارير ديتليف ميليس، أما بقية الأسماء فتبقى تحت ضغط «الاختبار السياسي» الذي يجعلها سورية أو لا؟ أما الاسم الأكثر «تلبّساً» بالسورية، حسب تصنيف اللائحة، فهو اسم إميل لحود رئيس الجمهورية الذي لايزال رأس «النظام الأمني» البائد ولكن القابل للانتعاش ومعاً على أن هذه «اللائحة» ليست مغلقة على نحو نهائي، بل هي مفتوحة في تصنيف حركتي الدخول والخروج، ففي الوقت الذي اتهم فيه بعض أطراف «14 آذار» حزب الله مثلاً بأنه «ينفذ أوامر سورية»في الجنوب، فإن وليد جنبلاط مثلاً، يخرج «حزب الله» مؤقتاً من هذه اللائحة، ويعتبره «ضمانة عروبة لبنان»!! دون أن ينسى التلميح إلى «أحزاب معينة» تأتمر بأوامر سورية! من المؤكد أن البعث أولها طبعاً، والحزب السوري القومي الاجتماعي «أثبتها» وأكثرها رسوخاً بـ «السورية»!! لكن بغير الاتجاه الذي ألمح إليه جنبلاط وسواه. فإن كانت «سورّية» البعث اللبناني قد جاءت من كون «الفكرة البعثية» في نشوئها وتأسيسها «سورّية» امتدت إلى غير كيان مجاور أو دولة بعيدة، فإن «سورّية» الحزب السوري القومي الاجتماعي نشأت وتأسست في «لبنان»، وهي «صناعة لبنانية» مائة بالمائة لـ مؤسسها وزعيمها ابن ضهور الشوير أنطون سعاده (1904 ـ 1949)!؟

إن ملاحقة «الوجود السوري» في لبنان خارج «الحقل العسكري» يحيل العملية برمتها لاستعارة آليات «مبدأ اللاسامية» ذو النزعة الاستئصالية ليس لما هو موجود «فيزيائياً» وحسب، بل لما هو «أفكار» وبنى فكرية تشكل أحد أهم ملامح «الفكر اللبناني» منذ منتصف القرن التاسع عشر، عندما بدأ «أعلام النهضة» الكشف عن القضية السورية ووعيها. بإنتاج فكري شكل التأسيس المعاصر للفكرة القومية بمختلف أطيافها.

لكن، يبدو «الخطاب اللبنانوي» الراهن محكوماً بالمفارقات والتناقضات ـ نعتمد مصطلح اللبنانوي للتعبير عن اتجاه لبننة من هو غير قابل للبننة ـ ذلك لأن تأكيد «الوحدة المصيرية» بين «سورية ولبنان» بالاستناد إلى حتمية التاريخ وحتمية الجغرافيا يتلازم في هذا الخطاب مع القول بضرورة إنهاء كل أشكال وحالات «الوجود السوري» في لبنان!!

فكيف يستوي «التاريخ المشترك» أو «المصير الواحد» مع «اللاوجود»؟! أو كيف يمكن أن يأتي «الخطاب السياسي» معاكساً لـ «حتمية التاريخ» و «حتمية الجغرافيا» في وقت يوهم فيه هذا الخطاب بأنه «يعيهما» على نحو لا لبس فيه؟!

ما من شك أن «الخطاب اللبنانوي» المستولد من توليفة «14 آذار» يبدو مورطاً في مأزق إمكانية إنتاج نفسه كخطاب واحد موحد، لعدد من الفرقاء الذين أرهقوا «التاريخ اللبناني» الحديث بـ «حروبهم الصغيرة» ومجازرهم الكبيرة، وهم إذ يتجهوا للاصطفاف بوجه «الوجود السوري» في لبنان، تحت خيمة «برنامج سياسي» محلي ـ دولي، يواجهون حقائق فوق ـ سياسية لا ترتبط، في حالاتها كلّها، بـ «الوجود العسكري السوري» الذي لم يعد قائماً، بل ترتبط على نحو وثيق بـ «تاريخ» يصل إلى ستة آلاف سنة، ليست جلسات مجلس الأمن وقراراته الراهنة، مهما اتجهت لمعاكسته، سوى ومضات خاطفة من عمره!